كارثة درنة الليبية.. ما هي الأسباب؟

نشر
آخر تحديث
درنة الليبية

مؤيد الشيخ حسن

مهندس مختص بالهندسة الحرارية والتحول الطاقوي والبيئة وحلول تغير المناخ

 

 

تعرض منذ أيام الشرق الليبي، لعاصفة تمركزت في مدينة درنة المطلة على البحر المتوسط، خلفت آلاف الضحايا، وتسببت بفيضانات جرفت أجزاء واسعة من المدينة، وسط مناشدات محلية وحكومية للعالم، بضرورة إرسال فرق انقاذ ومساعدات في أكبر كارثة طبيعية ألمت بالبلاد منذ عقود.

 

شهد الساحل الليبي المقابل لدرنة هطولات مطرية غزيرة جدا خلال أقل من يومين وصلت لحوالي 414 ملم، في منطقة تصنف بشبه الجافة مناخياً، وتستقبل معدل أمطار سنوي يتراوح بين  200 إلى 250 ملم، أي أن ما يسقط على مدار عامين سقط خلال مدة أقل من 48 ساعة ، ما أدى لتشكل فيضانات عارمة في منطقة تكثر فيها الوديان، غمرت أجزاء واسعة  من المدينة وتسببت بدمار البنية التحتية الهشة.


قوة هذه العاصمة تسببت بدمار سدين، يحتجزان خلفها كميات كبيرة من المياه، الأمر الذي زاد كتلة المياه وحجم الفيضانات، ما أدى لمضاعفة حجم الكارثة رغم اخطار مؤسسة الأرصاد الجوية الليبية الجهات الحكومية ووسائل الإعلام عبر الايميل قبل 72 ساعة بخطر وجود عاصفة، حسب ما نقلت الوكالة الدولية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة.

كما تسبت دمار البنية التحتية المقابلة للواجهة البحرية للمدينة، بخروج كميات من البحر وتسللها لأحياء المدينة واختلاطها مع مياه الفيضانات، كل هذه العوامل إضافة لغياب وعدم فعالية أنظمة الانذار والمراقبة، زادت حجم الكارثة والتي يتوقع وصول عدد ضحايا لأكثر من عشرة الالاف إنسان.

 

جغرافية المنطقة

 


يبلغ عدد سكان مدينة درنة مايقارب مئة ألف إنسان، تحتوي كثير من المباني المبنية على النمط السوفيتي، ويشقها في المنتصف وادي كبير يحمل اسم المدينة ليصل لساحل البحر الأبيض المتوسط، تجاورها هضبة جبلبة بشكل قوس تبلغ طولها حوالي 300 كم، ويترواح متوسط ارتفاعها بين 400 إلى 600 م، تنحدر هذه الهضبة عابرة مدينة درنة نحو البحر المتوسط وسط طبيعة وعرة صخرية، تكسوها طبقة من الرمال والأتربة الصحراورية الحمراء.

 

الإعصار المتوسطي

 


تتعرض مناطق مختلفة من العالم لعواصف اعصارية تشترك في كثير من الصفات، وتختلف بالتسميات حسب المنطقة التي تتشكل فيها، تعرضت المنطقة لنوع من العواصف المركبة تحمل خصائص متعددة شديدة تصنف من الأعاصير، يطلق عليها بالإنكليزية Medicane، أي الأعاصير المتوسطية التي تنشأ في البحر المتوسط، ومصطلح "ميديكان" مصطلح منحوت من الانكليزية، مؤلف من كلمتين البحر المتوسط (Mediterranean) و الإعصار (Hurricane).

 

يُظهر "الميديكان" الذي تم بدأ رصده بالأقمار الصناعية في ثمانيات القرن المنصرم، نوعاً خاصاً من الاضطرابات الجوية التي تؤثر على حوض البحر الأبيض المتوسط ​​من وقت لآخر، خاصة الجزء الغربي منه، وبشكل أقل تكراراً المناطق الوسطى والشرقية، خاصة في فصلي الخريف والشتاء، غالباً ما يحصل هذا النوع من الأعاصير المتوسطية بمتوسط مرة واحدة أو اثنتين في العام.

 

ويصنف هذا الاعصار من الدرجة المتوسطة مقارنة مع بقية الأعاصير، ويأخذ شكلاً حلزوني فارغ المركز يسمى بالعين، يترافق مع غيوم كثيفة وهواء وهطولات مطرية غزيرة جداً.
وتزداد شدته بسبب الصيف شديد الحرارة في البحر المتوسط، عندما تكون درجة حرارة المياه أكثر من 24 درجة مئوية، حيث يتخر كميات كبيرة من المياه متحولة لبخار الماء، يتركز في منطقة محدودة، كما تتشكل دوامة سحابية، إضافة لسرعة رياح عالية تتراوح بين 60 إلى 120 كم بالساعة،  وتتراوح مدتها بين عدة ساعات ونادراً ما تصل إلى 48 ساعة، في حين قد تستمر أنواع أخرى من الأعاصير لمدة أسبوعين.

 

عادة ما تكون المناطق الساحلية هي الأكثر تضرراً ، لأن "الميديكان" يتشكل على المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط، ونتيجة لذلك فإن الخط الساحلي هو الذي يعاني من آثاره أولاً عندما تكون في أقصى حد لها، إضافة لأن المناطق الساحلية غالباً ما تكون على ارتفاعات منخفضة، وتغمرها بسهولة الأمواج القوية وتغمرها الفيضانات الغزيرة لأنها تستقبل الفيضانات من مناطقها المجاورة.


ونظرا لعدم وجود قواعد بيانات منهجية متعددة للعقود أو لقرون خلت، فإن التقييم الموضوعي لمخاطر  هذه الأنواع من الأعاصير يبدو أقل موثوقية من الناحية العلمية، ما يجعل تقدير حجم أضرارها أكثر صعوبة.

 

عوامل أخرى عززت شدة الاعصار

 

إلى جانب الظاهرة المناخية العاجلة التي ألمت بمدينة درنة، فإن ظواهر أقل بطئاً تستمر لعشرات السنين تساهم في زيادة شدة هذا النوع من العواصف والأعاصير. 
فارتفاع درجات حرارة البحر بشكل ملحوظ يمكن أن يزيد من الطاقة الموردة لأنظمة العواصف، بالإضافة إلى تدمير النظام البيئي والإيكولوجي البحري يساهم يساهم بزيادة شدة "الميديكان".

 

كما أن التربة الصحراوية الرملية في المنطقة شرق ليبيا غير معتادة على تلقي كميات كبيرة من الأمطار، وغير قادرة على تخزين المياه، وهي بشكل عام كارهة للماء، حيث يتدفق الماء ويتراكم مشكلاً سيولاً جارفة وسط الصحراء.


إضافة لذلك تأتي ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية التي تصيب المدن، كعامل غير مباشر لزيادة شدة وعقابيل العاصفة على المدينة، فغياب المسطحات الخضراء وعدم التخطيط الزراعي الصحيح لمحيط المدينة، يساهم بارتفاع متوسط درجة الحرارة وانعاكسها على متوسط درجة حرارة الهواء  ودرجة حرارة البحر المواجه للمدينة.


كما أن قلة المسطحات الخضراء، يقل من امكانية تخزين المياه الناجمة عن الأمطار، التي تساعد على تثبيت التربة ومنع اتجرافها.

 

مقدمات منذرة

 

سبقت العاصفة التي ضربت ليبيا، عاصفة "دانيل" التي بدأت بشكل موجة حر ضربت أوروبا الوسطى في موعد غير مألوف مع بداية شهر أيلول، إضافة لاقتراب منخفضات جوية بتحمل شكلاً إعصارياً  قادماً من شمال غربي أوربا، ما تسبب بتحول العاصفة باتجاه الجنوب الشرقي باتحاه ليبيا.

 

وتسببت هذه الأحوال الجوية في موجة أمطار غزيرة وفيضانات في اليونان وبلغاريا وتركيا.

 

وشهدت جزيرة سكياثوس اليونانية في الخامس من سبتمبر هطولات مطرية وصلت لـ 754 مم خلال 18 ساعة، وهذه الكمية تزيد عن معدل الهطولات المطرية السنوية في مدينة باردة ومطيرة كباريس.

 

ونتيجة لهذه التراكمات المطرية، سرعان ما تعرضت العديد من المناطق اليونانية لفيضانات خطيرة. وفي عدة مدن تحولت الشوارع إلى سيول هائجة، حيث وجد آلاف السكان والسياح أنفسهم محاصرين على أرضيات مبانيهم أو فنادقهم، وفي اليوم التالي كانت الأضرار جسيمة تسببت بإغراق قرى بأكملها تحت أكثر من مترين من المياه، وإلى وفاة ما لا يقل عن 15 شخصا في اليونان.

 

بعد مغادرة اليونان العاصفة، اتخذ منخفض "دانييل" في النهاية خصائص استوائية مع ارتفاع درجة حرارة الجو فوق المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط. ثم أصبح منخفضاً على شكل "ميديكنا"، وهو منخفض يشترك في العديد من الخصائص مع الأعاصير المدارية. وانتهى الأمر بهذه العاصفة الاعصارية إلى الوصول إلى اليابسة في ليبيا ليلة 9 إلى 10 سبتمبر أيلول الجاري.  

 

 

انهيار للسدين ضاعف حجم الكارثة

 

 

نتيجة الفيضانات المتكررة التي كانت تضرب منطقة درنه، رأى الخبراء في ستينيات القرن العشرن بضرورة بناء عدة سدود لحماية المدينة من الفيضانات وتنظيم مجرى المياع، وفي بداية السبعينيات في أعقاب وصول معمر القذافي للحكم، وتقربه من المعسكر الاشتراكي، قامت شركة Hidrotehnika-Hidroenergetika اليوغسلافية، ومقرها اليوم في صربيا، ببناء سدين ركاميين قلبهما مكون من التراب والطين المضغوط، مع محيط مكون من الحجارة والصخور، السد الأول هو  سد البلاد وهو يبعد مسافة حوالي 1 كم جنوبا من قلب المدينة بسعة تخزينية في حدود 1.5 مليون متر مكعب، وبارتفاع حوالي 45 م، و سد أبو منصور الأكبر من الأول ويبعد حوالي 13 كم جنوب السد الأول، وبارتفاع حوالي 70 متراً.

 

لم يحتمل جسم سد أبو منصور كمية مياه الأمطار والضغوط العالية عليه، ما أدى إلى انفجاره ودماره، ونتيجة لذلك تشكلت موجه مائية ضخمة كونه السدّ الأكبر سرعان ما انتقلت نحو سد البلاد الأصغر حجماً، ما أدى لتحطمه مباشرة.


الكارثة التي ألمت بهذين السدين تعودان لعدة أسباب أبرزها، عدم الصيانة والرقابة الدائمة لهما، نتيجة غياب السلطات الرقابية، والوضع السياسي المتشظي، وانقسام البلاد لمناطق نفوذ، إضافة لعيوب في التصميم والتصنيع  منذ تاريخ الإنشاء، حيث تؤكد عدة شهادات بأن هذين السدين منذ تاريخ بنائهما يتعرضان لمشاكل عدة كتسرب المياه عند سقوط الأمطار الغزيرة كما حصل في عام 1986، حيث قامت السلطات المحلية بفتح بوابات التصريف، ما أدى لحدوث فيضان آخر تسبب بخسائر بشرية ومادية وقتها. 

 


التاريخ

 


تجمع مراجع علم المناخ القديم وتاريخ المنطقة، بأن هذه المنطقة من ليبيا تعرضت لعدة كوارث مشابهة تختلف بشدتها.

ففي عام 1941 تعرض وادي درنة لفيضان كبير تسبب بغمر أجزاء من المدينة، وتسبب بجرف آليات عسكرية ألمانية نحو البحر، كانت متمركزة في المنطقة أثناء الحرب العالمية الثانية، كما تعرضت المنطقة في الفترة الممتدة بين 1959 و 1969 لعدة حوادث مشابهة خلفت مئات الضحايا، الأمر الذي يؤكد أنها منطقة خطرة من ناحية الكوارث الطبيعية.

 


كيف تتأثر الظاهرة بتغير المناخ

 


يتسبب الاحتباس الحراري وتغير المناخ الذي بدأنا نلمس انعكاساته بشكل ملحوظ، بارتفاع درجات الحرارة في جميع بيئات العالم كالمحيطات والقارات والغلاف الجوي، وتؤدي المزيد من الحرارة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، إلى زيادة في حمل الرطوبة في الهواء ما يزيد من حجم  المياه المتساقطة على شكل أمطار، حيث أن ارتفاع درجة حرارة الهواء بسبب تغير المناخ يؤدي لزيادة رطوبته بمعدل +7% لكل درجة حرارة في المتوسط، الأمر الذي يدل على زيادة شدة هذا النوع من العواصف مع تغير المناخ. 

حتى اليوم لا توجد دراسات تؤكد بأن هذا النوع من العواصف سيكون أكثر عدداً مع تغير المناخ، ولكنها بالتأكيد ستكون أكثر كثافة وخصوصاً في المناطق التي لم تعتد على تلقي الكثير من الأمطار والتي لن يكون لديها بالضرورة الوسائل للتغلب عليها ومقاومتها.

تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي

العلامات

الأكثر تداولاً

    أخبار ذات صلة

    الأكثر قراءة

    الأكثر تداولاً

      الأكثر قراءة