يتخلى بعض مزارعو الكاكاو في غانا - ثاني أكبر منتج للكاكاو في العالم - عن زراعتهم لصالح الذهب في ظل طفرة للتعدين غير القانوني والتي دمرت إنتاج الكاكاو في البلاد وساعدت في دفع أسعار الشوكولاتة العالمية إلى مستويات تاريخية.
وعلى الرغم من تضاعف تكلفة الكاكاو المتداولة في نيويورك ثلاث مرات بين أوائل العام 2023 وبداية العام الجاري، فإن ضوابط الأسعار في غانا حرمت المزارعين من هذه المكاسب المفاجئة. ونتيجة لذلك، يبيع الكثيرون مزارعهم إلى عمال مناجم غير قانونيين دمروا مساحات شاسعة من الأراضي وسمموا جزءاً كبيراً من إمدادات المياه في البلاد.
تزعم صناعة الكاكاو والمجتمع المدني وتقرير مفوض من الحكومة أن عمال المناجم مدعومون من النخب السياسية، بحسب صحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
يزيد التصاعد الجامح لظاهرة التعدين غير القانوني من حدة الأزمة التي أدت إلى انخفاض محصول الكاكاو في الدولة الواقعة في غرب أفريقيا بنسبة 20% العام الماضي.
وتراجعت المحاصيل في كل من غانا وساحل العاج، اللتين تنتجان معاً أكثر من نصف إمدادات الكاكاو العالمية، منذ موسم 2020-2021، متأثرة بتغير المناخ وتفشي الأمراض ونقص الاستثمار المزمن.
وتسبب النقص العالمي الناتج عن ذلك في خفض هوامش أرباح صناع الشوكولاتة وأدى بالمستهلكين في جميع أنحاء العالم إلى تناول ألواح أصغر حجماً منها بوصفات جديدة تقلل من نسبة الكاكاو. في الشهر الماضي، حذر مسؤولون تنفيذيون من اثنتين من كبريات شركات الشوكولاتة في العالم من أن الاستهلاك قد يتباطأ بسبب ارتفاع الأسعار.
وانخفضت العقود الآجلة للكاكاو المتداولة في نيويورك من 10300 دولار إلى 8500 دولار للطن الأسبوع الماضي بسبب هذه المخاوف، قبل أن تتعافى إلى 9000 دولار مع تباطؤ الصادرات من ساحل العاج.
اقرأ أيضاً: أمطار ساحل العاج تحيي آمال مزارعي الكاكاو في الحصول على محصول جيد
الأشد ضرراً
قال المدير الإداري لشبكة Voice Network، وهي منظمة غير ربحية تركز على الاستدامة في الكاكاو، أنتوني فاونتن، إن عمليات التعدين غير القانوني هي "الأشد ضرراً" من بين جميع العوامل التي تتسبب في الأزمة، كما أن أضرارها غير قابلة للإصلاح بسبب الفيضانات والمواد الكيميائية التي يستخدمها عمال المناجم.
وقال فاونتن: "أي شخص يسافر إلى البلاد (غانا) يراها (عمليات التعدين) أينما ذهب. وتدمر كل مزرعة تلمسها". "بمجرد دخول غالامسي (المصطلح المطلق على عمليات التعدين غير القانوني) إلى مزارعك، تصبح التربة والمياه أرضاً قاحلة ملوثة".
يعد الدمار في غانا، أكبر منتج للذهب في أفريقيا، مثالاً قوياً على التأثيرات غير المباشرة الناجمة عن أسعار الذهب القياسية، مع اندفاع عدد كبير من التجار لشراء المعدن الثمين في محاولة لحماية أنفسهم من الاضطرابات الجيوسياسية وتهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالتعرفات الجمركية.
وارتفعت أسعار الذهب خلال الأسابيع الأخيرة إلى مستويات قياسية جديدة في ظل المخاوف من الحروب التجارية المحتملة بسبب الرسوم الجمركية المفروضة من الرئيس الأميركي مما يؤدي إلى لجوء المستثمرين إلى الملاذات الآمنة، ووصل سعر الأونصة في ذروتها إلى 2956.15 دولار يوم 24 فبراير/ شباط. وارتفع بنحو 11% منذ بداية العام.
اقرأ أيضاً: هل يكسر الذهب حاجز 3100 دولار في 2025؟
لا إجراء معتبر لحل المشكلة
على الرغم من صرخة الصناعة والمدافعين عن البيئة، لم يتم اتخاذ أي إجراء مهم لحل تلك المشكلة. خلال العام 2021، ألقى تقرير بتكليف من الحكومة اللوم على الجهات التنظيمية "الفاسدة" ومسؤولي الحزب الحاكم في نمو عمليات "غالامسي".
وقال المحلل في معهد الدراسات الأمنية، إينوك راندي أيكينز: "أصبحت الغالامسي أشبه بكارتل (تحالف بين مجموعات) مخدرات ممول من أشخاص قريبين جداً من السلطة. إذا كان لديك مسؤولون حزبيون وأشخاص مؤثرون متورطون، يصبح من الصعب جداً على أي حكومة أن تضرب بقوة".
ترك التقاعس عن اتخاذ الإجراءات مزارعي الكاكاو الذين يرفضون الانضمام إلى حمى الذهب في وضع سيء. فبينما يكافحون لمواجهة عمال المناجم المجاورين الذين يلوثون أراضيهم ويستقطبون عمالهم، فإنهم يجدون أنفسهم أيضاً مقيدين باللوائح الحكومية التي كانت تهدف في الأصل إلى حمايتهم.
سياسة تسعير الكاكاو تفاقم الأزمة
كان مجلس الكاكاو في غانا (المعروف باسم Cocobod)، والذي يشتري مباشرة من المزارعين وتبيع للتجار، يدفع للمزارعين ثلث السعر الذي تصل إليه حبوب الكاكاو في السوق، وذلك من خلال آلية تسعير تعتمد على أسعار الموسم السابق.
وصُممت هذه السياسة لحماية المزارعين من أسوأ الظروف، لكن مجلس الحبوب يطبق أيضاً اقتطاعات غير واضحة مقابل خدمات مثل توفير المبيدات، والتقليم الجماعي، وهي خدمات يقول المزارعون إنها لا تتحقق دائماً على أرض الواقع.
وحتى بعض مزارعي الكاكاو الأكثر موهبة في غانا يعانون من التأثيرات المدمرة لعمليات التعدين غير القانونية.
حصل فريدريك أوسو، 46 عاماً، على جائزة "أفضل مزارع" في منطقته المحلية في شرق غانا العام الماضي، وفي يناير/ كانون الثاني رفض عرضاً بـ 450 ألف سيدي (العملة الغانية) لبيع أرضه لمنقبين عن الذهب، معتقداً أنه سيكسب المزيد على المدى الطويل من خلال الزراعة. ولكن مع عائدات الكاكاو الضعيفة، يخطط لتحويل تركيزه هذا العام نحو السلع المتاح بيعها في السوق الحرة، مثل الأرز، وثمار النخيل، وتربية الحيوانات.
وقال أوسو: "زراعة الكاكاو عمل شاق بالفعل". "وإذا جمعت كل هذه المشاكل معاً فهذا يعني أنني لست سعيداً جداً بالاستمرار".
تلوث المياه بسبب المواد الكيميائية
كانت عمليات التنقيب غير القانوني موجودة منذ سنوات لكن العديد من الغانيين أدركوا خطورة الأزمة العام الماضي عندما خفضت شركة المياه المملوكة للدولة إمدادات المياه النظيفة بنسبة 75% في بعض المناطق، قائلة إنها لم تعد قادرة على التعامل مع المستويات العالية من المواد الكيميائية المستخدمة في عمليات مناجم الذهب. وحذرت إحدى هيئات الصناعة من أن غانا قد تضطر إلى البدء في استيراد المياه إذا لم تتحسن الأوضاع بسرعة.
وصفت منظمة WaterAid الخيرية التلوث بأنه "إبادة بيئية"، فيما استخدم فنان غاني مياه نهر برا البنية العكرة كطلاء. كما جرف عمال المناجم مساحات شاسعة من الغابات الواقعة على الأراضي المملوكة للمجتمعات الأصلية.
نزل المتظاهرون إلى شوارع العاصمة أكرا مع تفاقم الأزمة مما زاد من حالة الاستياء واسعة النطاق ضد الرئيس السابق نانا أكوفو أدو، الذي خسر نائبه الانتخابات الرئاسية في ديسمبر/ كانون الأول. وتعهد الرئيس الجديد جون ماهاما بشن حملة صارمة على التعدين غير القانوني لكنه لم يقدم أي خطط تفصيلية بعد.
قبل إغراق الأرض بالمياه، يقوم عمال المناجم بتفكيكها باستخدام حفارات ثقيلة باهظة الثمن، والتي يتم شراؤها غالباً بأموال تأتي من مسؤولين حكوميين وشبكاتهم، وفقاً لتقرير ممول من الحكومة صدر في العام 2021. كما اجتذبت حمى الذهب المستثمرين الصينيين من القطاع الخاص الذين تدفقوا على بلدات التعدين في غانا.
مع ارتفاع أسعار الذهب وسط حالة عدم اليقين الجيوسياسي، لم تفلح الأنباء المتفرقة عن اعتقالات عمال التعدين غير القانوني في وقف الاندفاع نحو هذه الصناعة.
شاهد أيضاً: نجيب ساويرس لـ CNBC عربية: المستثمر في قطاع التعدين يجب أن يكون حذرا في تكاليف استخراج الذهب
التخلي عن المهن الحرفية
تخلى غانيون في المهن الحرفية، مثل النجارة والخياطة وحتى تصميم الأزياء، عن وظائفهم للقيام بالعمل الشاق والخطير في بعض الأحيان المتمثل في التنقيب عن الذهب. غالباً ما ينتظر هؤلاء العمال انتهاء الموجة الأولى من عمال المناجم قبل النزول للبحث عن ما تبقى من ذهب.
"لقد كنت خائفاً عندما بدأت العمل"، هكذا قال كوابينا صامويل (32 عاماً)، الذي عمل في طاقم من ستة عمال مناجم في أوسينو، وهي بلدة كانت مسرحاً لحمى البحث عن الذهب في الشرق، منذ العام الماضي. "لكن لا يمكنك السرقة وعليك أن تعمل، وإلا فإن الجوع سيقتلك".
ترك كوابينا صامويل (32 عاماً) عمله في البناء والنجارة مع تراجع الطلب عليها، وزيادة تكاليف تربية أولاده الأربعة الذين يبلغ كبيرهم من العمر 11 عاماً على قدرته المالية. وهو يكسب الآن 2000 سيدي غاني في الشهر الذي يشهد أعمالاً جيدة، بعد أن عمل في طاقم من ستة عمال مناجم في منطقة أوسينو في شرق غانا منذ العمل الماضي.
كان جيمس أييم، عضو الجمعية المحلية التي تحكم المنطقة التي تضم أوسينو، يأمل ذات يوم في وقف تجارة التعدين غير القانوني. والآن يقول إن نشر قوات الأمن لاعتقال المنقبين غالباً ما يفشل في حل الأزمة لأن الضباط عرضة للرشوة.
يعتقد أييم أن أفضل حماية يمكن أن تطمح إليها غانا هي تنظيم أفضل لتعدين الذهب على نطاق صغير، حيث إن تقييد التعدين يؤدي في كثير من الأحيان إلى زيادة الجرائم الصغيرة.
وقال أبيم: "بالنسبة للشباب الذين يقومون بهذا الأمر، فإن الأمر يتعلق بالبقاء على قيد الحياة. لا يمكن إيقاف التعدين السطحي ولكن ربما يمكن القيام به بشكل مسؤول".
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي