مع كل تحرك للرؤساء حول العالم، سواء في التنقلات الداخلية أو الخارجية، ثمة سلسلة معقدة من البروتوكولات والإجراءات، يتم تنسيقها بدقة متناهية، من خلال فريق متعدد المستويات، يجمع بين الدبلوماسية والأمن واللوجستيات.. وتخضع تلك الترتيبات لتحضيرات مسبقة، ربما تمتد لأسابيع أو شهور في بعض الأحيان، وتتشارك فيها جهات رفيعة المستوى، على حسب كل زيارة وظروفها.
في الولايات المتحدة الأميركية تتشارك جهات داخل البيت الأبيض ووزارة الخارجية والقوات المسلحة وجهاز الخدمة السرية، من أجل ضمان أن يتحرك الرئيس في الخارج وكأن جزءاً من الولايات المتحدة ينتقل معه.. كذلك في التنقلات الداخلية "يتولى عملاء الخدمة السرية زمام المبادرة في لوجستيات السفر".
فيما يتعلق بالزيارات الرسمية (الخارجية)، فإنها عادة ما تبدأ بمرحلة التنسيق الدبلوماسي الذي يستغرق عدة أسابيع أو أشهر؛ فعند تلقي دعوة من دولة مضيفة، يعمل البيت الأبيض مع وزارة الخارجية الأميركية (وخاصة مكتب البروتوكول) على ترتيب الأجندة وتواريخ الزيارة بالتشاور مع نظرائهم في الدولة المستضيفة.
المكتب المختص
وبحسب تقرير سابق لـ "لوس أنغلوس تايمز"، فإن البيت الأبيض يستيعن بالمكتب المسؤول عن الإعداد المسبق Office of Presidential Advance لإدارة التحضيرات اللوجستية وتنظيم جداول المواعيد، حيث توفر إدارة الرئيس إرشادات غير معلنة قبل أشهر من الإقلاع.
ووفق موقع البيت الأبيض، فإن الهدف الرئيسي للمكتب هو تخطيط وتنظيم وتنفيذ الفعاليات الرئاسية في جميع أنحاء البلاد وحول العالم.
يُساعد "مكتب التقدم الرئاسي" في تنسيق برامج سفر الرئيس ترامب، بالإضافة إلى التخطيط والتحضير الدقيقين اللازمين لدعمه عند مغادرته البيت الأبيض. يتطلب ضمان نجاح الزيارة الرئاسية تفاعلًا مستمرًا مع جميع مكاتب البيت الأبيض والجهات الخارجية. سينضم متدربو مكتب التقدم الرئاسي إلى فريق ملتزم وفعال يلعب دوراً أساسياً في سير عمل الرئاسة.
ووفق الاتحاد الوطني لدافعي الضرائب في الولايات المتحدة، فغالباً ما تكون تلك الزيارات "عملية مكلفة ومعقدة تتطلب أسابيع من التحضيرات المسبقة ومئات من العاملين الأمنيين واللوجستيين وخططاً مفصلة لكل متغيّر بما في ذلك التنقل والإقامة والرعاية الطبية والطعام".
من جانبها، فإن وزارة الخارجية عند ترتيب زيارات المسؤولين الأميركيين إلى الخارج، تحرص على اختيار تسلسل الدول بعناية، لأن ترتيب الزيارات يُعتبر رسالة سياسية مهمة، وقد يؤدي تفضيل دولة على أخرى إلى استياء دولة حليفة أو شعورها بأنها أقل أهمية.
ومن ثم، فإن الجهات الأميركية المعنية بتخطيط الزيارات، هي كالتالي:
البيت الأبيض ومكتب الإعداد المسبق: يتولى مكتب الإعداد المسبق، فيما يخص إدارة تفاصيل الزيارة من الجانب الأميركي، بما في ذلك تنسيق جدول الأعمال مع المسؤولين الأجانب.
وزارة الخارجية – مكتب البروتوكولات: يعمل مكتب البروتوكول الأميركي على تنسيق الجانب الدبلوماسي، بما في ذلك الترتيب مع نظرائهم في الدولة المضيفة لحجز المواعيد والفعاليات الرسمية.
مجلس الأمن القومي للولايات المتحدة: يُشارك مستشارو الأمن القومي في الخطة العامة للزيارة؛ فعلى غرار ما وُصف عن زيارة الرئيس جورج بوش إلى الهند وباكستان، يحضر خبراء من NSC ضمن "وكلاء السفر في البيت الأبيض" الذين يوازنّون بين زيارات الدول المتنافسة، وفق تقرير الصحيفة الأميركية المشار إليه.
قوات الدفاع والطيران الرئاسي: يشرف الجناح الجوي 89 (89th Airlift Wing) في القوات الجوية الأميركية على رحلات طائرة الرئاسة (Air Force One).. كما يجري تنسيق المسارات الجوية مسبقاً مع قواعد إنطلاق طائرات الرئاسة والطائرات المرافقة.
جهاز الخدمة السرية: يتولى جهاز الخدمة السرية الرئيسي تأمين حماية الرئيس شخصياً طوال الزيارة، ويعمل منذ البداية على تقييم المواقع وجدولة فرق الحماية (خاصة العملية الأمنية للمرور من المطار وإجراءات الدخول).
اللجان الأخرى: قد تُنسق وحدات عسكرية وأمنية إضافية مع الخدمة السرية لأمن الرحلات. كما ينظم مكتب السفر التابع للبيت الأبيض تنقلات وفود الصحافيين المرافقة للرئيس، وفق تقرير سابق لواشنطن بوست.
الوفد المرافق للرئيس
أما فيما يتعلق بالوفد المرافق للرئيس الأميركي في الزيارات الخارجية، فيختلف حسب نوع الزيارة وحجمها. وعادة ما يتألف الوفد الرسمي للرئيس من مزيج من القيادات السياسية والرسمية والفريق الخاص والشخصي، ويمكن أن يشمل كلا من:
كبار مساعدي الرئيس ومستشاريه الأمنيين والدبلوماسيين (مستشارون في الأمن القومي والخارجية، إلخ) ووزراء رفيعي المستوى قد يرافقونه في بعض الزيارات.
أفراد الأسرة المقربون: غالباً ما يرافق الرئيس أفراد الأسرة وعوائلهم في الزيارات الكبيرة؛ على سبيل المثال، في زيارة الرئيس ترامب الرسمية إلى بريطانيا في العام 2019 (في ولايته الأولى) رافقه أربعة من أبنائه البالغين مع أزواجهم.. وقد ترافق زوجة الرئيس (السيدة الأولى) دائماً الرئيس في الزيارات الرسمية.
الفريق الطبي: يسافر فريق طبي أميركي متخصص مع الرئيس في كل رحلة دولية. وبحسب تقرير مُراجع للحسابات (GAO)، فإن وحدة الخدمات الطبية بالبيت الأبيض تسافر عادة مع الرئيس في الرحلات الخارجية، لتكون مستعدة لأي طارئ صحي.
الطهاة وفريق المطبخ: يُرافق الرئيس طاهٍ شخصي وفريق من الطهاة والطهاة المساعدين لإعداد وجباته المألوفة أثناء الزيارة. فقد ذكرت التقارير الصحفية، مثلاً، أن الرئيس بوش في زيارته إلى بريطانيا في العام 2003 كان برفقة "طاهيه الشخصي وأربعة طهاة إضافيين" ضمن الوفد.
الأمن واللوجيستيات: قد يضم الوفد مئات عناصر جهاز الخدمة السرية وقوات الأمن المرافقة، إضافةً إلى آليات مدرعة ومركبات طوارئ. وقد أفادت تقارير سابقة على سبيل المثال بأن رحلة بوش إلى لندن في العام 2003 شملت نحو 250 عميلاً من جهاز الخدمة السرية و150 مستشاراً أمنياً و200 موظف حكومي و50 مساعدًا سياسياص.
مجموعات تقنية واتصال: ينضم للوفد موظفو اتصالات تكنولوجية لنقل البثّ وتوفير الاتصالات المشفرة للرئيس، بالإضافة إلى أفراد فريق نقل البيانات والأجهزة الإلكترونية التي تضمن استمرارية الاتصال الدائم بالرئيس. إذ يسبق الرحلة غالبًا نقل آليات "التواصل الفضائي" الخاصة بالرئاسة، إلى جانب مركبات الشفرات التي تضمن أمن الاتصالات.
ترتيبات النقل والأمن
تتضمن الرحلات الرئاسية ترتيبات نقل واسعة النطاق وضمانات أمنية مشددة. البداية مع طائرة الرئاسة Air Force One (يحمل هذا الاسم أي طائرة تابعة للقوات الجوية تكون تحمل الرئيس، ولكن عادةً ما يُقصد به طائرتي بوينغ 747-200).
الطائرات مخصصة ماديًّا بإلكترونيات محصنة ضد الاضطرابات الكهربائية، وأنظمة اتصالات مُشفّرة، وجناح خاص للرئيس (غرفة اجتماعات وحمام)، وجناح طبي كامل، ومطبخ صغير قادر على خدمة نحو 100 شخص في آنٍ واحد.كما تحوي أنظمة دفاعية ضد الهجمات وأجهزة تشويش لإحباط أي تهديد جوي.

أما فيما يخص الطائرات المرافقة والبديلة، فإنه بالإضافة إلىAir Force One ، تُستخدم مروحيات وطائرات صغيرة لنقل الفريق الرئاسي على الطرق القصيرة. ففي الزيارات الكبيرة تُرافق الطائرة الرئاسية عدة طائرات دعم؛ فقد يحتاج المسار إلى طائرتين احتياطيتين.
وفي هذا السياق، يشير تقرير سابق لمجلة "بوليتكو" إلى أن "كل رحلة رئاسية تتطلب مئات من القوات والعشرات من الرحلات الجوية، بما في ذلك طائرة احتياطية لطائرة الرئاسة وطائرات لنقل الموكب والمروحيات ومعدات الاتصالات"، وذلك فيما يخص الرحلات الداخلية. وعادةً ما يكون هناك طائرات أخرى احتياطية يتم استخدامها للدعم الخفي. كما تستخدم أحيانًا الطائرة الرئاسية الثانية Air Force Two وهي بوينغ 757 المخصصة لنائب الرئيس) للرحلات القصيرة). علاوة على سرب مكوّن من ثلاث مروحيات متطابقة؛ حيث تعمل كطائرات تمويه.
نماذج لزيارات سابقة
ولطالما ارتبطت زيارات رؤساء الدول الكبرى إلى الخارج بإجراءات أمنية ولوجستية بالغة التعقيد، حيث تُخطط كل خطوة بدقة عالية، وتُنفَّذ وسط شبكة من الأجهزة الأمنية والدبلوماسية والعسكرية، بما يعكس حجم المخاطر وحساسية هذه التحركات.
وتكشف مراجعة زيارات سابقة لرؤساء الولايات المتحدة كيف أن هذه الزيارات لا تقتصر على البعد الدبلوماسي والسياسي فحسب، بل تتحول إلى عمليات لوجستية ضخمة تجري خلف الكواليس، تبدأ الاستعدادات لها قبل أشهر، وتُنفَّذ بسرية تامة أو في أجواء من الاستعراض الأمني والاحتفالي.
على سبيل المثال، في فبراير، شباط 2023، قام الرئيس الأميركي جو بايدن بزيارة سرية وغير معلنة إلى كييف، استغرقت يومًا واحدًا فقط. وبحسب صحيفة "واشنطن بوست"، تطلبت الزيارة إجراءات تأمين استثنائية، إذ اقتصر الوفد الرسمي على عدد محدود من أقرب معاوني بايدن، إلى جانب فريق طبي وطاقم أمني. وتشير الصحيفة إلى أن الاستعدادات للزيارة بدأت قبل أشهر، رغم الإعلان المفاجئ عنها قبل الرحلة بوقت قصير، ما يعكس الحرص على الحفاظ على السرية في ظل الأوضاع الأمنية المعقدة في أوكرانيا.
وفي يونيو/ حزيران 2019، شهدت زيارة الرئيس الأميركي حينها دونالد ترامب إلى المملكة المتحدة استعراضاً ضخمًا للقوة الأمنية. ووفقًا لما نشرته صحيفة تقارير بريطانية حينها، فقد أحضر ترامب معه وفدًا يضم حوالي 1000 شخص، من بينهم موظفون أمنيون وعسكريون، بالإضافة إلى أربعة من أبنائه الكبار وأزواجهم.
ركزت التغطيات الإعلامية حينها على ضخامة الترتيبات الأمنية، حيث جُهزت المدفعية الاحتفالية بـ41 طلقة، واستُعدت سيارته المدرعة الشهيرةThe Beast، فيما شارك عشرات من عناصر جهاز الخدمة السرية الأميركي، بدعم من القوات البريطانية، في تأمين الموكب والفعاليات، وفق تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
أما في يونيو/ حزيران 2009، فقد زار الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مدينة دريسدن الألمانية، في رحلة سبقتها ترتيبات لوجستية هائلة. وبحسب ما ذكرته صحيفة "بوليتكو"، بدأت الاستعدادات قبل أشهر، وشهدت الأسابيع التي سبقت وصوله تدفقاً مستمراً للطائرات العسكرية، التي نقلت الموظفين ومعدات الاتصالات وفرق الأمن والمروحيات والسيارات المدرعة إلى ألمانيا.
وذكرت الصحيفة أن القوات الجوية الأميركية صنّفت هذه المهمات تحت كود "بانر"، وهو الكود المخصص لحمل الرئيس، والذي يتضمن تجهيز عربات موكبه المصفحة ومروحيات "مارين ون" ووحدات الاتصالات المحمولة، ما يعكس حجم الجهد العسكري المرتبط بالزيارة.
تُظهر هذه النماذج أن زيارات رؤساء الدول ليست مجرد تحركات دبلوماسية عابرة، بل عمليات أمنية ولوجستية معقدة، تُدار بدقة متناهية، حيث تُوظَّف الموارد البشرية والتقنية والعسكرية لضمان نجاح الزيارة وحماية رأس الدولة. وبحسب خبراء، فإن هذه التحركات ترسل أيضًا رسائل رمزية مدروسة إلى الدول المستضيفة والعالم، سواء من خلال السرية أو من خلال الاستعراض العلني للقوة.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي