كان كبير علماء إيران النوويين يقود سيارته برفقة زوجته متوجهاً إلى منزله الريفي في أحد أيام الخريف قبل أربع سنوات، حينما تباطأ عند مطبّ صناعي. وفي تلك اللحظة، أُطلق وابل من الرصاص من رشاش آلي يتحكم به عن بُعد، كان مُثبّتاً على شاحنة صغيرة قريبة، فأرداه قتيلاً على الفور، بحسب ما أفادت به السلطات الإيرانية.
اغتيال محسن فخري زاده —مهندس البرنامج النووي العسكري السري المعروف بـ«مشروع أماد»— كشف، بطريقة دموية، مدى تغلغل الاستخبارات الإسرائيلية في العمق الإيراني. لكن ذلك الاختراق لم يتوقف، بل اتّضح بشكل أكبر خلال الأسابيع الأخيرة، مع تنفيذ ضربات جوية إسرائيلية أسفرت عن مقتل عدد من العلماء الإيرانيين الذين يُعتقد أنهم كانوا ضالعين في البرنامج النووي.
وتجد القيادة الإيرانية نفسها اليوم أمام معضلة استراتيجية: فبعد القصف الأميركي المكثّف لمنشآتها النووية ومنظوماتها الدفاعية، إما أن تعقد تسوية موجعة مع واشنطن تتخلى فيها عن برنامج تخصيب اليورانيوم، أو أن تُعيد إحياء مشروع الأسلحة السرّي الذي كان فخري زاده العقل المدبر له.
خلافاً لدول أخرى نجحت في تطوير أسلحة نووية بسرّية تامة، لا يمكن لإيران أن تفترض أنّ بإمكانها مواصلة العمل النووي بعيداً عن أعين الرصد. فقد أثبتت إسرائيل مراراً قدرتها على اختراق المنظومة الأمنية الإيرانية، وكشف الأنشطة النووية السرّية، واستهداف الشخصيات البارزة في الجيش والأجهزة الاستخباراتية، بحسب ما أكّده مسؤولون وخبراء سابقون في المجال الأمني لوكالة أسوشيتيد برس.
اقرأ أيضاً: ما هي أسلحة اليورانيوم المنضب؟ وما هي مخاطرها؟
وقال إريك بروير، المسؤول السابق في الاستخبارات والذي يعمل حالياً لدى «مبادرة التهديد النووي» —وهي منظمة غير ربحية تُعنى بالأمن العالمي— إن «التحدي الأساسي الذي تواجهه إيران في سلوكها المسار السرّي هو إخفاء أنشطتها عن أنظار الولايات المتحدة وإسرائيل».
وأضاف: «هذا هو التحدي المحوري، لأن كلا البلدين —وخصوصاً إسرائيل— أظهرا قدرة متكرّرة على اختراق البرنامج النووي الإيراني»، لافتاً إلى أنّ «إسرائيل أثبتت أيضاً قدرتها على توجيه ضربات عسكرية مباشرة لتدميره».
ضربات جوية إسرائيلية تُحكم الطوق على الدفاعات الإيرانية وتُعيد شبح المشروع النووي
أكد مسؤولون استخباراتيون سابقون أنّ سلاح الجو الإسرائيلي نجح فعلياً في تحييد الدفاعات الجوية الإيرانية، ما جعل طهران عاجزة —في الوقت الراهن— عن حماية أي هدف على أراضيها، ولا سيما المواقع المشتبه في ارتباطها بأنشطة نووية، من ضربات جوية أميركية أو إسرائيلية محتملة.
وقال مارك بوليميروبولوس، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، والباحث حالياً في «المجلس الأطلسي»: «الإسرائيليون يملكون تفوّقاً استخباراتياً كاملاً على إيران.. وإذا رصدوا تهديداً محتملاً، فإنهم سيتعاملون معه فوراً، سواء من خلال ضربات عسكرية أو عمليات سرّية».
وكانت إيران قد حاولت في السابق بناء قنبلة نووية تحت غطاء من السرّية، إذ أطلقت مشروعاً سرياً لتطوير سلاح نووي قبل أكثر من عقدين، بحسب وكالات استخبارات غربية. غير أنّ الغطاء انكشف في ديسمبر كانون الأول 2002، عندما نشرت صورٌ ملتقطة بالأقمار الصناعية لموقع تخصيب اليورانيوم في مدينة نطنز، ومفاعل يعمل بالمياه الثقيلة على بُعد نحو 200 ميل في مدينة أراك.
اقرأ أيضاً: تقرير لوكالة الطاقة الذرية: إيران تعتزم التوسع في تخصيب اليورانيوم بمنشأتي نطنز وفوردو
وتواصل إيران نفي امتلاكها أي برنامج لتصنيع الأسلحة النووية. إلا أن وثائق أرشيفية سرّية، حصل عليها جهاز الموساد الإسرائيلي في عملية جريئة عام 2018 —وتؤكد الولايات المتحدة صحّتها— كشفت عن خطط مفصّلة لبناء خمس قنابل نووية.
وتُجمِع وكالات الاستخبارات الأميركية على أن إيران تخلّت عن مشروعها النووي العسكري في عام 2003، بعد انكشاف أمره، وفي ظل التوتر الإقليمي الناتج عن الغزو الأميركي للعراق المجاور.
ومنذ ذلك الحين، تقول طهران إن برنامجها النووي مدني الطابع. غير أنّ أنشطة تخصيب اليورانيوم وغيرها من العمليات ذات الصلة، منحت إيران القدرة —إن قررت لاحقاً— على التحول إلى إنتاج سلاح نووي، وهي الحالة التي يُطلق عليها خبراء حظر الانتشار النووي مصطلح «القدرة النووية على العتبة».
إذا قرّر النظام الإيراني السعي بوتيرة متسارعة نحو امتلاك القنبلة النووية، فسيكون ذلك انطلاقاً من قناعة بأن امتلاك السلاح النووي سيُشكّل رادعاً يمنع الخصوم من مهاجمة البلاد أو محاولة إسقاط القيادة. وهو بذلك يسير على خطى دول أخرى نجحت في تطوير برامجها النووية سراً، مثل كوريا الشمالية، وباكستان، والهند، وإسرائيل.
فالحكومة الإسرائيلية أبقت الولايات المتحدة في الظلام لسنوات بشأن برنامجها النووي. وفي خمسينيات القرن الماضي، ساعد مهندسون فرنسيون إسرائيل في بناء مفاعل نووي ومنشأة سرية لإعادة معالجة الوقود المستهلك من أجل استخراج البلوتونيوم. وحتى يومنا هذا، لا تؤكد إسرائيل رسمياً امتلاكها للسلاح النووي، مكتفية بالقول إنها «لن تكون البادئة بإدخال الأسلحة النووية إلى الشرق الأوسط».
أما البرنامج النووي الهندي فقد بدأ أيضاً في خمسينيات القرن الماضي، حين زوّدتها الولايات المتحدة وكندا بمفاعلات نووية ووقود نووي لأغراض سلمية فقط. ورغم خضوع البرنامج لضمانات تمنع استخدام تلك الموارد في صناعة الأسلحة، فإن الهند قامت في ستينيات القرن الماضي بإعادة معالجة الوقود لإنتاج البلوتونيوم، ما مكّنها من تنفيذ أول تجربة نووية في عام 1974 تحت اسم «بوذا المبتسم».
وفي باكستان، شكّل العالم النووي عبد القدير خان ركيزة أساسية للبرنامج النووي. فقد تمكّن من سرقة تصاميم وأسرار تكنولوجية لأجهزة الطرد المركزي المتقدّمة خلال عمله في شركة هندسية نووية في أمستردام. وفي ما بعد، ارتبط اسم خان بشبكات لتهريب التكنولوجيا النووية إلى دول أخرى، منها إيران وكوريا الشمالية.
اقرأ أيضاً: وزير الخارجية الأميركي: تقرير مرتقب قد يؤكد اقتراب إيران من القنبلة النووية
وفي تسعينيات القرن الماضي، كان لدعم خان دور محوري في تمكين كوريا الشمالية من إطلاق برنامجها النووي. كما أن نظام بيونغ يانغ حصل على معدات وتكنولوجيا من السوق السوداء ومن خلال شركات واجهة، وفق تقارير صادرة عن مراقبي الأمم المتحدة.
المفارقة أن الولايات المتحدة هي التي ساعدت إيران في إطلاق برنامجها النووي في الأصل، وذلك قبل الثورة الإسلامية عام 1979 التي أطاحت بنظام الشاه. فخلال حكم الشاه، وبموجب برنامج «الذرة من أجل السلام» الأميركي، زوّدت واشنطن طهران في ستينيات القرن الماضي بتكنولوجيا نووية ووقود ومفاعلات ومعدات وتدريب، من بينها مفاعل أبحاث.
لكنّ الخبراء يرون اليوم أن إيران لم تعد بحاجة إلى شركاء خارجيين في الجانب التقني، غير أن المهمة المقبلة ستكون شاقة في حال سعت طهران إلى إعادة بناء ما تبقى من برنامجها النووي.
فجميع المواقع النووية المعروفة في إيران كانت هدفاً لحملة القصف الإسرائيلية مطلع الشهر الجاري، تبعتها الأسبوع الماضي غارات أميركية على ثلاث منشآت لتخصيب اليورانيوم، باستخدام 14 قنبلة خارقة للتحصينات بوزن 30 ألف رطل، إضافة إلى أكثر من عشرة صواريخ «توماهوك». وبحسب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، فقد أسفرت تلك الضربات عن تدمير منشآت رئيسية، وألحقت أضراراً «جسيمة» بالبرنامج النووي الإيراني.
ورغم هذا الدمار غير المسبوق، والذي لا يزال تقييمه جارياً، يرى بعض خبراء حظر الانتشار أن إيران قد تحتفظ بقدرة تقنية تتيح لها إعادة إطلاق برنامج تسلّح نووي، بما في ذلك امتلاك اليورانيوم المخصب، وأجهزة الطرد المركزي، والوصول إلى أنفاق أو مواقع تحت الأرض يصعب استهدافها.
لا يزال مصير كامل مخزون إيران من اليورانيوم عالي التخصيب غير معروف، كما تحتفظ طهران بعدد غير محدد من أجهزة الطرد المركزي في مستودعات لم تكن ضمن الأهداف التي قصفها الطيران الإسرائيلي، بحسب تقرير لشبكة NBC News.
إلا أن العقبة الفنية الأبرز التي تواجه إيران قد تتمثل في إنتاج معدن اليورانيوم، وهو عنصر أساسي في صناعة الرؤوس النووية. وقد كان لدى إيران موقع معروف واحد لتحويل اليورانيوم إلى حالته المعدنية الصلبة، غير أن الضربات الجوية الإسرائيلية دمّرته بالكامل في مدينة أصفهان.

اقرأ أيضاً: لغز غامض..أين ذهب اليورانيوم الإيراني؟
وبغياب مثل هذه المنشأة، لن تتمكن إيران من إنتاج سلاح نووي. ولا يُعرف ما إذا كان لدى طهران موقع سرّي بديل لهذا الغرض، ما يفتح الباب أمام تكهنات جديدة حول البنية التحتية النووية الخفية للنظام الإيراني.
لكن وبصرف النظر عن التحديات التقنية، فإن القرار النهائي بشأن المضي في صناعة القنبلة النووية سيكون سياسياً بالدرجة الأولى، وليس تقنياً أو لوجستياً، وفق ما يرى جيفري لويس، خبير حظر الانتشار النووي في «معهد ميدلبري للدراسات الدولية».
وقال لويس: «الأمر في جوهره قرار سياسي، لا تقني. لا تزال لدى إيران قدرات كبيرة».
وبعد موجة الضربات الجوية المكثفة التي كشفت عن تفوق إسرائيل الجوي، قد تنظر إيران إلى امتلاك السلاح النووي باعتباره السبيل الوحيد للدفاع عن النفس وضمان بقاء النظام، بحسب مارفن واينباوم، الباحث البارز في «معهد الشرق الأوسط» وأستاذ العلوم السياسية في جامعة إلينوي.
وأضاف واينباوم: «إيران لديها الآن كل الأسباب لتقول: يجب أن نحصل على القنبلة. سنُعامل بشكل مختلف إذا امتلكناها».
وقد ظل المسؤولون داخل النظام الإيراني منقسمين لسنوات حول مسألة تطوير الأسلحة النووية، فيما بدت سياسة البلاد خلال العقدين الماضيين بمثابة تسوية محسوبة: الحفاظ على القدرة على امتلاك السلاح النووي دون إنتاجه فعلياً، تحسباً لظروف قد تفرض اللجوء إليه مستقبلاً.
ويبقى السؤال الحاسم الذي يشغل صناع القرار في طهران: هل سيمثّل السلاح النووي ضماناً لبقاء النظام، أم خطراً يهدّد قبضته على السلطة؟
يخيّم على القرار الإيراني المحتمل بشأن السلاح النووي تهديد مزدوج: اختراقات الاستخبارات الإسرائيلية، والتفوّق الجوي الذي قد يُمكّن تل أبيب من استهداف أي منشأة إيرانية فور رصد مؤشرات على سباق نحو إنتاج القنبلة.
وفي هذا السياق، يقول جيفري لويس، خبير حظر الانتشار النووي: «سيكون من اللافت أن نرى ما إذا كان النظام سيأخذ الأمر على محمل الجد أخيراً، أم أن مستوى السرّية التشغيلية لديه سيبقى بائساً كما كان دائماً.. لقد كانوا مهملين إلى حد بعيد».
على الجانب الدبلوماسي، يُتوقّع أن يجري ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للرئيس دونالد ترامب، محادثات مع الجانب الإيراني خلال الأيام المقبلة سعياً إلى التوصل لاتفاق يقضي بوقف تخصيب اليورانيوم مقابل تخفيف العقوبات المفروضة على طهران.
وفي الأثناء، ستبقى وكالات الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية «في حالة تركيز شديد على كل ما يدور خلف الكواليس»، بحسب مارك بوليميروبولوس، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي