من منظور اقتصادي بحت، يرى بعض المحللين في «وول ستريت» أن المدفوعات التي تقدمها «غوغل» لشركائها تبدو بمثابة «تأمين غير ضروري»، إذ إن هيمنتها راسخة بما يكفي حتى من دونها. وتشير البيانات إلى أن المستخدمين يفضلون «غوغل» حتى عندما يُمنحون حرية الاختيار. ففي أوروبا، حيث أجبرت السلطات التنظيمية المستخدمين على اختيار محركهم الافتراضي بعد حكم من المفوضية الأوروبية ضد «غوغل»، لم تتأثر حصة الشركة السوقية التي ما زالت تدور حول 90%، وفق بيانات «ستات كاونتر».
وقال دان نايلز، مؤسس شركة «نايلز إنفستمنت مانجمنت»، إن «التجربة الأوروبية أثبتت أن غوغل قادر على الازدهار من دون هذه المدفوعات، لكن السوق الأميركية تتحرك بوتيرة أسرع، وما يهم هو المستقبل أكثر مما فُقد». وأضاف: «بصراحة، أرى أن غوغل، إذا واصلت هذا المسار بعد صدور الحكم، قد تكون واحدة من أفضل الأسهم أداءً العام المقبل».
حتى مقترحات «غوغل» العلاجية تسير في هذا الاتجاه، إذ عرضت السماح بعقود أقصر وإتاحة المجال لعدة مزودين بدلاً من الحصرية الكاملة، لكنها حذرت من أن الخطر الأكبر يكمن في دفع وزارة العدل نحو إلزامها بمشاركة بيانات البحث.
اقرأ أيضاً: غوغل تعتزم إتاحة خدمات الذكاء الاصطناعي "Gemini" للحكومة الأميركية بأقل من دولار
ويقول وليام كوفاتشيك، الرئيس الأسبق لهيئة التجارة الفدرالية، إن وزارة العدل تراهن عملياً على أن الحد من صفقات الحصرية سيتيح المجال لظهور منافسين جدد. وأوضح: «إنه نوع من الإيمان بالمجهول»، لكنه أشار إلى أن تجارب سابقة أثبتت أن إزالة الحواجز تفتح المجال أمام ابتكارات غير متوقعة. وحذّر كوفاتشيك من أن فرض بيع «كروم»، أحد أشد الإجراءات المطروحة، قد يكون رمزياً أكثر من كونه فعالاً، قائلاً: «لطالما كان التفكيك الكبير هوساً في قضايا مكافحة الاحتكار، لكنه قد يبعدنا عن الحلول الحقيقية للمشكلة التنافسية القائمة».
أما ريبيكا آلينسورث، أستاذة القانون بجامعة فاندربيلت والمتخصصة في مكافحة الاحتكار وشركات التكنولوجيا الكبرى، فأكدت أن الأمر ليس «لعبة صفرية»، مضيفة: «يمكن فرض علاج قوي لمكافحة الاحتكار، وبعد سنوات قليلة تجد أن الشركة لا تزال تحقق نجاحاً كبيراً. هذه ليست تهديدات وجودية». ورأت أن المدفوعات ليست هي السبب في استمرار الناس باستخدام «غوغل»، بل أشبه ما تكون بـ«تأمين ضد الابتكار»، إذ تُجمّد النظام البيئي وتمنع المنافسين من إيجاد فرصة.
وقالت آلينسورث: «لقد ناضلت غوغل بشدة من أجل الاحتفاظ بحق تقديم هذه المدفوعات. إنها تجعل الصناعة عصيّة على الابتكار، أو على الأقل، إذا حدث الابتكار، فسيكون بواسطة غوغل ولمصلحتها».
وتخشى وزارة العدل من أن تعيد «غوغل» استخدام الاستراتيجية نفسها مع منصتها للذكاء الاصطناعي «جيميني»، لذلك تدفع نحو فرض قيود على صفقات التوزيع الحصرية في مجال الذكاء الاصطناعي، بل وتقترح إلزام الشركة بمشاركة بيانات البحث المجهولة مع المنافسين، بما يشمل ما يبحث عنه المستخدمون والروابط التي ينقرون عليها.
فرصة الذكاء الاصطناعي
منذ عام 2003، أي قبل ظهور «آيفون» و«كروم»، ساعدت صفقات البحث الافتراضي بين «غوغل» و«آبل» في تشكيل ملامح الإنترنت. وفي 2017، شوهد سوندار بيتشاي وتيم كوك يتناولان النبيذ في مطعم فاخر في بالو ألتو، بينما كانت فرق الشركتين تضع اللمسات الأخيرة على واحدة من أكثر الصفقات ربحية في قطاع التكنولوجيا: بقاء «غوغل» المحرك الافتراضي على أجهزة «آبل».
واليوم، وبعد ثماني سنوات، ما زال الرئيسان التنفيذيان في موقعيهما، لكن الديناميكيات تغيّرت. إذ برز عصر جديد من البحث يقوده الذكاء الاصطناعي التوليدي، لا العقود الحصرية.
ويشير محللو «وول ستريت» إلى المكاسب المحتملة إذا توقفت «غوغل» عن دفع 20 مليار دولار سنوياً لـ«آبل»، ووجهت هذه الأموال نحو الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، ما قد يعزز أرباحها مع الحفاظ على هيمنتها.
وقال محللو «بيرنشتاين» في مذكرة: «لنفترض أن غوغل حُرمت من دفع مقابل صفقات توزيع البحث، وتمكن الآخرون من الاستفادة من تقنيتها في هذا المجال، فما هي الأصول التي يمكن أن تعطيها غوغل الأولوية؟ الجواب: جيميني».
أما دان نايلز، فأكد أن «غوغل» مع «جيميني» أمام فرصة للانتقال من صورة المتأخر في الذكاء الاصطناعي إلى موقع الشركة التي تقدم أقوى المنتجات في السوق، وهو تحول بدأت معالمه تظهر في اختبارات الأداء.
اقرأ أيضاً: عالم جديد لكبار السن.. كيف يواكبون الذكاء الاصطناعي دون أن يقعوا في الفخ؟
وقد صرح بيتشاي خلال المحاكمة بأنه تحدث مع كوك بشأن إضافة «جيميني» إلى أجهزة «آبل». وفي يونيو حزيران الماضي، أعلنت «آبل» دمج «شات جي بي تي» من «أوبن إيه آي» في أجهزتها خلال مؤتمر المطورين «WWDC». وأكد إدي كيو من «آبل» أن خدمات ذكاء اصطناعي أخرى مثل «برپلكسيتي» و«أنثروبيك» يمكن أن تُضاف أيضاً إلى متصفح «سفاري» كخيارات، لكن لا شيء يضاهي حجم «غوغل».
فـ«برپلكسيتي» تعالج نحو 15 مليون استعلام يومياً، مقابل 10 مليارات لـ«غوغل». وأوضح بيتشاي في شهادته بأبريل أن الذكاء الاصطناعي سيعمل على «تحويل البحث بشكل عميق».