تواجه الولايات المتحدة الأميركية مجدداً شبح الإغلاق الحكومي، في مشهد بات يتكرر كل بضع سنوات مع تعثّر التوافق بين البيت الأبيض والكونغرس على إقرار الميزانية. ومع اقتراب الموعد النهائي لتمويل المؤسسات الفدرالية، يخيّم القلق على الأسواق والموظفين والمستثمرين، في أزمة تحمل أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة.
ما هو الإغلاق الحكومي؟
الإغلاق الحكومي يعني توقف عمل الوكالات الفدرالية غير الأساسية، بسبب نفاد التمويل الذي يقرّه الكونغرس. بموجب قانون العجز الأميركي (Antideficiency Act)، لا تستطيع أي مؤسسة فدرالية إنفاق الأموال دون تفويض تشريعي. وإذا لم يتم تمرير الميزانية أو قانون تمويل مؤقت، تُجبر عشرات الهيئات على تعليق خدماتها، ويُحال مئات آلاف الموظفين إلى إجازة قسرية من دون أجر.
وبحسب تقديرات غولدمان ساكس، فإن الإغلاق الحكومي المقبل يهدد ما يصل إلى 900 ألف موظف بالتوقف عن العمل، وينذر بخسائر اقتصادية بمليارات الدولارات.
جذور الأزمة.. استقطاب سياسي عميق
الأزمة الحالية ليست وليدة اللحظة، بل تعكس انسداداً سياسياً متصاعداً. فالعلاقة بين الديمقراطيين والجمهوريين داخل الكونغرس باتت أكثر حدة، فيما يستخدم كل طرف ورقة الإغلاق الحكومي للضغط على الآخر.
الجمهوريون يسعون إلى خفض الإنفاق والربط بين التمويل وإصلاحات سياسية، فيما يتمسك الديمقراطيون بتمويل برامج الرعاية الصحية والإنفاق الاجتماعي. وهكذا يتحوّل الإغلاق إلى سلاح تفاوضي، لكنه يترك آثاراً مباشرة على حياة المواطنين واقتصاد البلاد.
إقرأ أيضا: ترامب يجتمع مع قيادات الكونغرس لتجنب الإغلاق الحكومي.. وتخفيضات تمويلية محتملة
تداعيات اقتصادية خطيرة
كل أسبوع إغلاق يقتطع نحو 0.15 نقطة مئوية من النمو الاقتصادي، بحسب تقديرات مؤسسات مالية مثل "غولدمان ساكس". وإذا استمرت الأزمة أكثر من أسبوعين، فإن الاقتصاد الأميركي قد يخسر ما بين 0.3 و0.5 نقطة مئوية في الربع الأخير من العام.
إضافة إلى ذلك، يؤدي الإغلاق إلى تعليق نشر بيانات اقتصادية مهمة مثل تقرير الوظائف الشهري، ما يعقّد مهمة مجلس الاحتياطي الفدرالي في تقييم الوضع الاقتصادي واتخاذ قرارات بشأن أسعار الفائدة. هذا الفراغ في البيانات قد يدفع الأسواق إلى الاعتماد على مؤشرات بديلة أقل دقة، ما يزيد من حالة الغموض.
تأثير مباشر على الموظفين والخدمات
في حال استمرار الإغلاق، يُتوقع أن يتوقف ما يقرب من 900 ألف موظف فدرالي عن العمل. بعض الخدمات الأساسية مثل الأمن والدفاع تستمر، لكن قطاعات واسعة تتأثر، وأهمها: تعليق البرامج البحثية والصحية، تأجيل كثير من المراجعات والتشريعات الإدارية، تقليص خدمات عامة تمتد من الحدائق الوطنية إلى مكاتب منح القروض.
ومن شأن هذه التجميدات أن تزيد الضغط على الأسر الأميركية وتعزز الانطباع بضعف قدرة الدولة على تسيير شؤونها.
اقرأ أيضا: الولايات المتحدة.. مخاوف من إغلاق حكومي بعد رفض مجلس الشيوخ مشروعاً للتمويل
الأسواق المالية في حالة ترقّب
ومع تصاعد المخاوف من الإغلاق خلال الأيام الأخيرة، تراجعت عوائد سندات الخزانة الأميركية، إذ يلجأ المستثمرون إلى الأصول الآمنة وسط حالة عدم اليقين. كما يراقب المتعاملون باهتمام قرارات الفدرالي، الذي قد يجد نفسه مضطراً إلى تعديل سياساته في حال استمر تعطّل البيانات الرسمية.
كل ذلك يحدث في وقت حساس يشهد تباطؤاً في سوق العمل وتذبذباً في معدلات التضخم، ما يجعل أي تعطيل حكومي عاملاً إضافياً لزعزعة الثقة.
• إغلاق 2013: دام 16 يوماً، وأجبر 800 ألف موظف على التوقف عن العمل، وألحق خسائر بمليارات الدولارات.
• إغلاق 2018-2019: الأطول في التاريخ (35 يوماً)، أدى إلى تعطّل برامج حيوية وتأخر صرف الرواتب، وأضعف ثقة المستثمرين.
• إغلاق 1995-1996: كان ساحة مواجهة بين الرئيس بيل كلينتون والجمهوريين في الكونغرس، وأثبت أن طول الأزمة يزيد كلفتها السياسية والاقتصادية.
- هذه السوابق تظهر أن الإغلاق ليس استثناءً بل أداة سياسية متكررة، غالباً ما يدفع ثمنها الاقتصاد والمواطن.
حلول مطروحة
لتفادي الكارثة، هناك 4 مسارات يراها المراقبون.
أولها، الاتفاق على قانون تمويل مؤقت (Stopgap Bill)، ما يتيح استمرار عمل الحكومة لأسابيع أو أشهر إضافية بانتظار تسوية نهائية. وهو الحل المؤقت والأقصر أجلا.
والحل الثاني هو فصل القضايا الخلافية عن الميزانية، حيث يتم معالجة ملفات الهجرة أو الضرائب بمعزل عن تمويل الحكومة. وهو حل قصير الأجل أيضا، ولكنه أكثر استقرارا نسبيا من الحل الأول.
أما الحل الثالث، فيتضمن إصلاح تشريعي دائم، حيث أن هناك بعض المقترحات تدعو إلى آلية تمويل تلقائي تمنع الإغلاق، لكن هذه الأفكار لم تلقَ توافقاً حتى الآن. ويعد هذا حلا طويل الأجل، لكن مساره في غاية الصعوبة.
فيما يكون الحل الرابع غير التقليدي عبر ضغط شعبي وانتخابي، حيث يلعب الرأي العام الأميركي دوراً حاسماً، إذ غالباً ما يتهم الناخبون الحزب الأكثر تشدداً بتحمّل مسؤولية الأزمة، ما ينعكس على الانتخابات المقبلة.
اقرأ أيضا: بسبب دعم الرعاية الصحية.. خلافات داخل الكونغرس الأميركي تُهدد بإغلاق حكومي
سيناريوهات المستقبل
إذا جرى التوصل إلى اتفاق عاجل، قد يقتصر الضرر على اضطراب قصير في الأسواق. أما إذا طال أمد الإغلاق، فإن التأثير سيمتد إلى النمو، السياسات النقدية، وثقة الناخبين في المؤسسات. وبالنظر إلى الاستقطاب الحالي، تبدو فرص الحل السريع محدودة، ما يفتح الباب أمام أزمة جديدة تثقل كاهل الاقتصاد الأميركي وتضعف موقعه على الساحة الدولية.
وفي النهاية، فإن الإغلاق الحكومي الأميركي ليس مجرد خلاف مالي بل تعبير عن أزمة ثقة سياسية عميقة.
وبينما ينتظر المواطنون والموظفون الفدراليون والمستثمرون كلمة الحسم، تبقى النتيجة أن النظام السياسي الأميركي يضع نفسه مراراً أمام اختبار القدرة على إدارة الخلافات من دون شلّ الدولة بأكملها.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي