بالنظر إلى الكلفة المادية وحدها لإعادة الإعمار في قطاع غزة، إذا ما نجحت خطة وقف إطلاق النار، فإن العالم مقبل على خطوة في غاية الصعوبة... لكن الحقيقة أن الدمار تخطّى المادي إلى الإنساني، ما يجعل تعويض كل ما راح "مهمة مستحيلة".
ومع ذلك، يبقى السؤال الاقتصادي: كيف نعيد تشغيل الحياة بسرعة، وبأي تمويل، وتحت أي حوكمة؟
موجز الاحتياجات والأضرار:
بحسب أحدث التقارير الأممية والدولية المتوفرة، تقدّر الاحتياجات المالية لإعادة الإعمار والإنعاش الاقتصادي بنحو 53.2 مليار دولار على عشر سنوات، بينها نحو 20.6 مليار دولار في أول ثلاث سنوات لردّ الخدمات الأساسية (الكهرباء، والمياه، والصرف الصحي، والطرق، والصحة، والتعليم)، وفق التقييم السريع المؤقت للأضرار والاحتياجات (IRDNA) الذي أعدته الأمم المتحدة بالتعاون مع البنك الدولي والاتحاد الأوروبي في شهر فبراير 2025.
من ضمن هذه الاحتياجات والتقديرات، فإن الأضرار المادية المباشرة تُقارب 30 مليار دولار، والخسائر الاقتصادية التي تتعلق بالإنتاج والإيرادات المفقودة تقدر بنحو 19 مليار دولار.
وعلى مستوى القطاعات، فإن قطاع الإسكان شهد تضرّر أو تدمير ما يقارب 300 ألف منزل؛ ما يجعل ملف السكن الحصة الأكبر في الكلفة. وبالتوازي معهن ففي قطاعي الصحة والبنية الأساسية، كانت أكثر من 95% من المستشفيات غير فعّالة (معطلة أو مدمرة) وقت التقييم، وشبكات المياه والنقل متضررة بشدة.
وعلى مستوى الاقتصاد الكلي، شهد الاقتصاد في قطاع غزة انكماشا يناهز 83% في عام 2024، بينما لا توجد أرقام واضحة لعام 2025 نتيجة الشلل الكلي في القطاع. وفيما يخص التضخم، فإن ارتفاعات السلع الغذائية على وجه التحديد شهدت قفزات قاربت 500% في بعض الذروات المتعددة، بحسب تقارير الأمم المتحدة.
اقرأ أيضا: تطورات خطة وقف إطلاق النار في غزة.. ترامب: المحادثات مع حماس ناجحة للغاية وتتقدم بسرعة
"خطة ترامب"... ربط الإعمار بالأمن والحَوكمة
بحسب البنود المعلنة حتى الآن، تروّج الرؤية المرتبطة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب لإطار "تكاملي" يزاوج بين الأمن والتمويل والحَوكمة، ويجعل وتيرة الإعمار مرهونة بتقدمٍ مُتحقق على مسار نزع السلاح وترتيبات الانسحاب.
وفي سياق التنظيم المدير للقطاع فيما بعد سريان الخطة، سيكون هناك:
• هيئة دولية مؤقتة لإدارة ملف الإعمار (طُرِح أن يترأسها ترامب، مع شخصيات دولية كـتوني بلير)، تقوم على وضع المعايير الفنية، وجدولة التنفيذ، ومراقبة الإنفاق.
• إدارة فلسطينية تكنوقراطية انتقالية للخدمات والبلديات تحت إشراف الهيئة الدولية، إلى حين إصلاح مؤسسات الحكم المحلي.
• منطقة اقتصادية خاصة داخل غزة لجذب الاستثمارات الخاصة (صناعات خفيفة، وخدمات رقمية ولوجستيات، وخدمات الطاقة والاتصالات) وتوليد الوظائف.
• اشتراطات أمنية مُسبقة ومتدرجة، تشمل نزع سلاح الفصائل، ومعالجة البنى العسكرية (خاصة الأنفاق)، وقوة استقرار دولية تحلّ تدريجياً محل القوات الإسرائيلية بالتوازي مع تقدم مشاريع الإعمار.
• تمويل متعدد الأطراف عربي وغربي ومؤسساتي؛ من دون أرقام مُلزِمة علنية حتى الآن.
• إعادة التصميم العمراني في مناطق محددة، وإزالة أنقاض واسعة، وشبكات بنى تحتية كبرى.
لكن الخطة المعلنة تفتقر إلى بنود تفصيلية منشورة حول الميزانية أو القوائم القطاعية أو الجداول الزمنية المُلزِمة، كما لا يوجد بها أو خارجها (حتى وقت كتابة هذا التقرير) أي التزامات تمويلية رسمية مُفصّلة من مانحين.
من يدفع ومن يُدير؟
بحسب المراكز البحثية الغربية التي تناولت الخطة حتى الآن، تتجه الولايات المتحدة وإسرائيل إلى تأييدٍ سياسي عام لفكرة ربط الإعمار بالترتيبات الأمنية، مع بقاء تفاصيل الحوكمة والتمويل قيد التفاوض.
وفي المقابل، يبرز الاتحاد الأوروبي كشريك تقني وتمويلي محتمل بعدما شارك في تقييم IRDNA، مؤكداً أولوية الإغاثة ثم التعافي المبكر عبر منحٍ وقروضٍ ميسّرة وضمانات عبر البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والصناديق الأوروبية.
وستلعب المؤسسات الدولية دوراً محورياً، إذ يمكن للبنك الدولي ووكالات الأمم المتحدة، مثل اليونسيف وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمة الصحة العالمية، إضافة إلى بنوك التنمية الإقليمية، تولّي المشتريات العامة وإدارة العقود وتطبيق معايير البيئة والمجتمع.
عربياً، أعلنت مصر وقطر والسعودية والإمارات استعداداً مبدئياً للمساهمة، على أن تبقى مصر بوابةً لوجستية أساسية، فيما يرتبط قبول التمويل بترتيبات حوكمة مقبولة فلسطينياً.
أما القطاع الخاص وشراكات الدولة مع القطاع، فيحتاجان إلى إطار واضح لتقاسم المخاطر وتقديم الضمانات لتمكين مطوري البنية التحتية ومشغلي خدمات المياه والطاقة والاتصالات من الدخول بثقة، بحسب المراقبين.
خطط التمويل السريع
التقارير الأممية والمراقبون يرون أن الواقع يشير إلى أن "السلة المختلطة" تبقى الخيار الأكثر واقعية ومرونة لتمويل إعادة إعمار غزة، إذ تجمع بين المنح السيادية والقروض الميسّرة وآليات التمويل الدولي الحديثة.
ووفقا لهذه الحزمة، فجزء من التمويل سيأتي عبر منح سيادية مخصصة للتعافي المبكر والإسكان الاجتماعي وقطاعات الصحة والتعليم، في حين يمكن الاعتماد على قروض ميسّرة وصناديق ائتمانية متعددة المانحين (MDTF) تُدار بشفافية لضمان الانضباط المالي.
وإلى جانب ذلك، يُعوَّل المجتمع الدولي على الضمانات الاستثمارية لتخفيف المخاطر أمام المستثمرين، وعلى شراكات الدولة مع القطاع الخاص في قطاعات الكهرباء والمياه والنفايات والطرق، مع تطبيق تعرفة اجتماعية تضمن عدالة الخدمة للفئات الهشة. ويمكن إصدار سندات إنمائية أو "سندات للشتات الفلسطيني" بإشراف دولي ومعايير إفصاح مشددة، فيما تتولى وكالات أممية إدارة المشتريات المركزية والعقود الإطارية لتقليل الكلفة وتسريع التنفيذ.
اقرأ أيضا: ترامب: المرحلة الأولى من اتفاق وقف النار في غزة ستنفذ هذا الأسبوع
مسار الخطة والجدول الزمني
أما من حيث الجدولة الزمنية، فتبدو الخطة قائمة على مسارين متوازيين؛ أولاً: التعافي المُتدرج الواقعي (خلال 0–36 شهراً)، وهو المسار الذي يبدأ بمرحلة عاجلة تشمل توفير الكهرباء والمياه والصرف الصحي، وبناء مستشفيات ومدارس معيارية قابلة للتوسعة، إلى جانب فتح الطرق الأساسية وتنفيذ برنامج شامل لإزالة الأنقاض.
كما يجري تشغيل عدد كبير من العمالة المحلية ضمن برامج "النقد مقابل العمل" (Cash-for-Work) لامتصاص الصدمة الاجتماعية وتوليد دخل فوري. وتُقدّر الكلفة المرجعية لهذه المرحلة بنحو 20 مليار دولار، على أن تُدار بهيكل حوكمة شفاف وتتبّع إنفاق ربع سنوي، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
والمسار الثاني هو التحوّل الهيكلي، والذي يستغرق ما بين 3 إلى 10 سنوات، ويتضمن إنشاء مناطق اقتصادية متخصصة صغيرة (Pilot) يتم تقييمها قبل التوسع، وربط غزة بمحاور الطاقة والاتصالات الإقليمية من خلال شبكات ألياف ضوئية وربط كهربائي ومشروعات للطاقة الشمسية اللامركزية.
كما تشمل الخطة تطوير سلاسل قيمة للمواد الإنشائية وإعادة تدوير الأنقاض، ودعم الصناعات الغذائية الخفيفة، إلى جانب إطلاق مسرّعات أعمال رقمية تستهدف فرص العمل في مجالات التعهيد والخدمات العابرة للحدود.
وبحسب الخبراء والتقارير الأممية، فبهذه المقاربة المتعددة المسارات، يبدو التمويل ممكنًا، لكن التنفيذ سيبقى مرهونًا بالاستقرار السياسي والرقابة الدولية وتكامل الشركاء في إدارة أموال الإعمار ومتابعة آثارها المباشرة على حياة سكان غزة.
اقرأ أيضا: أرقام مرعبة بعد عامين من الحرب في غزة.. تدمير 90% من القطاع و70 مليار دولار خسائر أولية
مخاطر التنفيذ وخارطة الطريق العملية
رغم أن الأرقام والتصميمات المبدئية لخطط إعادة إعمار غزة تبدو طموحة، إلا أن مسار التنفيذ محفوف بجملة من المخاطر البنيوية والسياسية واللوجستية التي قد تُعطّل انطلاق العملية أو تُبطئ وتيرتها بشكل كبير.
أول هذه المخاطر يتعلق بالأمن والولوج، إذ لا يمكن الشروع في الإعمار دون ضمان وصول آمن ومستدام للمعدات والكوادر، وتوفير ترتيبات واضحة للمعابر والتأمين، باعتبارها شرطاً مسبقاً لأي نشاط إنشائي أو لوجستي.
أما الخطر الثاني فيتصل بـ"الحَوكمة والشرعية"، فغياب القبول المحلي لأي هيئة تنفيذية قد يؤدي إلى تعطيل العمل أو فقدان الثقة، ما يجعل المشاركة الفلسطينية في إدارة العملية ضرورة اقتصادية بقدر ما هي سياسية.
يضاف إلى ذلك تعارض أجندات المانحين؛ فالتنافس على النفوذ أو فرض الشروط قد يجزّئ البرامج ويخلق ازدواجية في الإنفاق، والحل المقترح هنا هو إنشاء صندوق ائتماني موحد ينسّق التمويل والعمليات التنفيذية.
ويبرز خطر آخر في استدامة التشغيل والصيانة، إذ إن بناء الأصول أسهل بكثير من صيانتها وتشغيلها على المدى الطويل، ما يستوجب تمويلاً مخصصاً لخمس إلى عشر سنوات لاحقة.
كما تمثل حقوق الملكية وإدارة الأراضي تحدياً كبيراً، فالتعويضات وإعادة التوطين وتسوية الملكيات ملفات شديدة التعقيد قد تُبطئ مشاريع الإسكان وتُثير نزاعات اجتماعية.
أما سلاسل التوريد، فستظل من أعقد المعضلات، بسبب اختناقات الموانئ والمعابر، ومخاطر التأمين والنقل، وندرة بعض المواد مثل الإسمنت والصلب، وهي عوامل قد ترفع الكلفة وتؤخر الجداول الزمنية.
ولتجاوز هذه العقبات، تقترح الخطة خارطة طريق تنفيذية تتضمن 12 خطوة عملية مترابطة:
1. إنشاء مجلس توجيهي مشترك يضم المانحين الرئيسيين والمؤسسات الدولية وتمثيلاً مهنياً فلسطينياً بتفويض زمني واضح.
2. تأسيس صندوق ائتماني موحّد لدى البنك الدولي لإدارة تمويل التعافي المبكر والقطاعات الاجتماعية.
3. اعتماد مشتريات مركزية عبر الوكالات الأممية والعقود الإطارية لتقليص الهدر وتسريع الشراء بالجملة.
4. إعداد خارطة أمن–إعمار تُحدّث أسبوعياً لتحديد «المناطق المفتوحة» أمام المقاولين وأعمال التسليم.
5. إطلاق حزمة "عودة الحياة" وتشمل الكهرباء والمياه والطرق والنفايات والمستشفيات الميدانية خلال 3 إلى 6 أشهر في المناطق الأكثر تضرراً.
6. تطوير إسكان سريع وذكي عبر وحدات معيارية قابلة للتوسعة، مع تخطيط أحياء متدرج وتسوية متزامنة للملكية.
7. توفير تشغيل فوري من خلال برامج "النقد مقابل العمل" والمشتريات المحلية لتعظيم الأثر الاقتصادي المباشر.
8. تعزيز التحول الرقمي ببنية ألياف ضوئية وسعات إنترنت عالية لخلق فرص عمل عن بُعد.
9. تنفيذ مشروعات تجريبية للشراكة بين القطاعين في إدارة النفايات والطاقة الشمسية اللامركزية بتعرفة اجتماعية عادلة.
10. فرض معايير حوكمة صارمة لضمان التقييم البيئي والاجتماعي لكل مشروع وتفعيل آليات شكاوى فعالة.
11. تحقيق شفافية عامة عبر بوابة بيانات متاحة باللغتين العربية والإنجليزية تُظهر تفاصيل المشاريع والمناقصات والمدفوعات.
12. اعتماد تمويل مختلط يجمع بين المنح والقروض الميسّرة والضمانات وأدوات تقاسم المخاطر لتحفيز الاستثمار الخاص تدريجياً.
ويؤكد الخبراء أن الالتزام بهذه الخطوات المتكاملة من شأنه تحويل الإعمار من مجرد خطة مالية إلى مشروع إنساني وتنموي مستدام، يُعيد الحياة إلى غزة خطوةً بخطوة، ويضمن أن يصل كل دولار إلى موضعه الصحيح.
النجاح يُقاس بما يصل إلى الناس
وفي الخلاصة، تُظهر أرقام IRDNA أن الفاتورة كبيرة، لكنها تتضخّم مع كل شهر تأخير. والرؤية الأميركية ("خطة ترامب") قد تنظّم الجهود إذا اقترنت بـشرعية محلية وشفافية مالية والتزامات تمويل مُعلَنة؛ وإلا ستبقى عنواناً بلا مضمون.
فالمعيار الحاسم ليس حجم الوعود، بل قدرة الحَوكمة على تحويل كل دولار إلى ساعة كهرباء إضافية، ونقطة ماء آمنة، وسرير مستشفى، ووظيفة مستدامة. إذ أن هذا ما يعني الناس... وهذا ما ينعش الاقتصاد.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي