انهارت الحكومة الفرنسية يوم الاثنين بعد رفض البرلمان مشروع الموازنة العامة، ما دفع رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو إلى تقديم استقالته إلى قصر الإليزيه بعد ساعات فقط من إعلان تشكيل حكومته، في واقعة وُصفت بأنها الأسرع في تاريخ الجمهورية الخامسة.
هذه الاستقالة، التي جاءت بعد 14 ساعة فقط من أداء الحكومة اليمين، لم تفتح باباً سياسياً فحسب، بل فجّرت أيضًا أزمة اقتصادية متشابكة يعيشها ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو.
انهيار حكومي في 14 ساعة
لوكورنو، خامس رئيس وزراء في عهد إيمانويل ماكرون خلال عامين فقط، قدّم استقالته بعد تهديد حلفاء وخصوم بإسقاط حكومته في البرلمان، إذ لم يتمكن من تأمين دعم كافٍ لمشروع الموازنة الجديد الذي تضمّن خطط تقشف جزئية.
وعلى الفور، تراجع اليورو بنسبة 0.7% إلى 1.1665 دولار عقب الأنباء، فيما هبط مؤشر "كاك 40" بأكثر من 1.2% في تعاملات باريس، في إشارة إلى القلق من فراغ سياسي قد يطول.
والانقسامات البرلمانية ليست جديدة على المشهد الفرنسي؛ فمنذ انتخابات 2022، لم ينجح أي حزب في تأمين أغلبية مطلقة، ما أجبر الرئيس ماكرون على المناورة بين كتل متنافسة واستخدام صلاحيات دستورية لتمرير القوانين المالية. إلا أن تكرار هذه الآلية حوّل كل تصويت على الموازنة إلى استفتاء على بقاء الحكومة نفسها.
مع اقتصار ولايته الرمزية على 14 ساعة فقط، تعد الحكومة التي ترأسها لوكورنو الأقصر في تاريخ الجمهورية الخامسة، متجاوزة حتى حكومة ميشال بارنييه التي استمرت نحو 3 أشهر في 2024.
• لوكورنو (2025): استقال بعد 14 ساعة من توليه الحكومة رسميا.
• فرانسوا بايرو (2025): استقال بعد نحو 3 أشهر على تعيينه.
• ميشال بارنييه (2024): كان يوُصف بأنه الأقصر في الجمهورية الخامسة مع ولاية قرابة ثلاثة أشهر فقط، حتى أفقده لوكورنو اللقب.
• برنار كازنو (2016–2017): استمرت حكومته قرابة 5 أشهر.
الاقتصاد الفرنسي في مرآة الأزمات
بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (INSEE)، سجل الاقتصاد الفرنسي نموًا فصليًا نسبته 0.6% في الربع الثاني من 2025، مدفوعًا بزيادة الإنفاق العام بنسبة 0.9% وزيادة صافي الصادرات، فيما تراجعت استثمارات الأسر.
كما تباطأ التضخم إلى 1.2% في سبتمبر، وهو أدنى مستوياته منذ عام 2021، في حين استقر معدل البطالة عند 7.5%.
ورغم هذه المؤشرات الإيجابية نسبيًا، فإن الصورة الكلية لا تزال أكثر هشاشة. ففرنسا لا تزال تواجه عجزًا ماليًا يناهز 5.3% من الناتج المحلي الإجمالي، ودَينًا عامًا عند مستوى 115.6% من الناتج، وفق تعريف معاهدة ماستريخت.
اقرأ أيضا: فرنسا.. ماكرون يكلف رئيس الوزراء المستقيل بإجراء محادثات أخيرة مع الأحزاب
تحذيرات وكالات التصنيف
في مايو 2024، خفّضت وكالة "ستاندرد أند بورز" تصنيف فرنسا إلى "AA-" مع نظرة مستقبلية "سلبية"، محذّرة من "مسار عجز طويل الأمد وتحديات تمويلية متزايدة". وفي سبتمبر 2025، لحقت بها "فيتش"، وعدّلت النظرة إلى "سلبية" أيضًا، مما زاد كلفة الاقتراض الحكومي.
وتقدّر المفوضية الأوروبية أن نمو اقتصاد فرنسا لن يتجاوز مستوى 1.1% فقط في مجمل عام 2025، ما يجعل تحقيق التوازن المالي مهمة شبه مستحيلة دون إصلاحات جذرية في الإنفاق العام والضرائب.
لماذا سقطت الموازنة؟
في الخلفيات، ترى المعارضة أن مشروع الحكومة كان بمثابة "ميزانية تقشفية متنكرة"، إذ تضمّن خفضًا في دعم الطاقة وبعض البرامج الاجتماعية مقابل زيادات محدودة في الإيرادات. أما الوسطيون فاتهموا الحكومة بالعجز عن تقديم رؤية اقتصادية طويلة الأمد.
وتقول تقارير "لو موند" و"فرانس إنفو" إن المعارضة اليسارية واليمينية اتحدت للمرة الأولى منذ سنوات في إسقاط الموازنة، احتجاجًا على ما وصفوه بـ"حكم المراسيم" واستخدام الأدوات الدستورية لتمرير القوانين دون تصويت.
والنتيجة كانت انهياراً لحكومة لم تعش سوى يوماً واحداً، وسط تساؤلات حول جدوى استمرار ماكرون حتى نهاية ولايته في 2027، في ظل برلمان منقسم ومزاج شعبي غاضب من ارتفاع الأسعار وتراجع الخدمات العامة.
5 رؤساء وزارة خلال عامين
منذ مطلع 2024، تداولت فرنسا خمسة رؤساء وزراء، هم: إليزابيث بورن، وغابرييل أتال، وميشال بارنييه، وفرانسوا بايرو؛ وأخيرا سيباستيان لوكورنو.
وقد تمت تسمية لوكورنو قبل أقل من شهر، في 9 سبتمبر 2025، واستقال في 6 أكتوبر، ليصبح خامس رئيس وزراء لماكرون خلال 24 شهرًا، في مؤشر على أزمة حكم بنيوية تعيق تنفيذ السياسات الاقتصادية.
تداعيات اقتصادية فورية
مع كل تغيير حكومي، ترتفع علاوة المخاطر على السندات الفرنسية وتتسع الفجوة (سبريد) مع السندات الألمانية. فالمستثمرون يخشون غياب رؤية مالية واضحة، خصوصًا بعد تحذيرات "ستاندرد أند بورز" من أن أي تراجع في ضبط الإنفاق قد يؤدي إلى مزيد من خفض التصنيف.
كما أن تأخر إقرار الموازنة سيؤثر على تحويلات البلديات وبرامج البنية التحتية، ومنها مشروعات التحول الأخضر والطاقة المتجددة، التي تعتمد على تمويل الدولة المركزية. وكل شهر تأخير، بحسب تقديرات بنك فرنسا المركزي، قد يرفع كلفة الفوائد بنحو 1.5 مليار يورو سنويًا بسبب ارتفاع عوائد الاقتراض.
اقرأ أيضا: سندات فرنسا لأعلى مستوى في 6 أشهر في ظل الأزمة الحكومية
سيناريوهات المرحلة المقبلة:
هناك 4 سيناريوهات متاحة بسحب المراقبين.
1. حكومة تكنوقراط محدودة الولاية:
يُرجَّح أن يلجأ ماكرون إلى تشكيل حكومة خبراء مؤقتة بمهام محددة، هدفها تمرير موازنة جديدة مقبولة أوروبيًا، توازن بين ضبط الإنفاق ودعم النمو. وقد يمنح الاتحاد الأوروبي باريس مهلة إضافية إذا تم تقديم مسار إصلاح موثوق.
2. ائتلاف وسطي مرحلي:
قد يعيَّن رئيس وزراء توافقي من خارج الأحزاب الصدامية، من أجل جمع أغلبية حول موازنة معدّلة تحافظ على الإنفاق الاجتماعي الحيوي، مع تقليص الدعم تدريجيًا. هذا السيناريو يمنح الاستقرار حتى منتصف 2026.
3. انتخابات برلمانية مبكرة:
خيار محفوف بالمخاطر؛ إذ يعني شهوراً من الشلل التشريعي وارتفاع كلفة الدين العام. لكن المعارضة تضغط باتجاهه لاستعادة الشرعية الشعبية.
4. موازنة مؤقتة بإشراف أوروبي:
إذا تعذر التوافق، يمكن اللجوء إلى آلية "الاثني عشر المؤقتة" حسب القواعد الأوروبية، ما يضع المالية الفرنسية تحت رقابة مشددة من بروكسل ضمن إجراءات العجز المفرط.
ماذا تنتظر الأسواق؟
تترقب الأسواق حاليا 4 أمور هامة، على رأسها هوية رئيس الوزراء الجديد وخطابه الأول تجاه الأسواق، والتزامات الحكومة بخفض العجز بمعدل سنوي ثابت وفق القواعد الأوروبية، وخطة إدارة الدين وآجال الإصدارات السيادية، وأخيرا أي مؤشرات على مرونة من البنك المركزي الأوروبي تجاه الدول المثقلة بالعجز.
وفي غضون ذلك، تعيش فرنسا اليوم أزمة مزدوجة "سياسية واقتصادية"، تتجسد في برلمان مشتت، ودين عام متفاقم، ونمو ضعيف بالكاد يتجاوز 1%. ومن دون توافق سياسي حول "خريطة طريق مالية" واضحة، ستظل فرنسا تدور في حلقة حكومات قصيرة الأجل وديون مرتفعة، وهو مسار مكلف لبلد يحتاج كل نقطة نمو وكل نقطة ثقة.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي