من المتوقع أن يُعطي قادة الحزب الشيوعي الصيني الأولوية لزيادة الاستثمارات في التصنيع المتقدّم، خلال اجتماعهم هذا الأسبوع لوضع الخطوط العريضة للخطة الخمسية المقبلة، في ظل التوترات القائمة مع الولايات المتحدة بشأن التكنولوجيا والتجارة.
ومن المقرر أن تبدأ اللجنة المركزية للحزب، وهي الهيئة العليا لصنع القرار، يوم الإثنين اجتماعها الممتد على أربعة أيام والمعروف بـ«الدورة الكاملة الرابعة»، لوضع ملامح الخطة الخمسية الخامسة عشرة للبلاد. كما يُتوقّع أن تُبرز أهمية تعزيز الاستهلاك في اقتصاد يواجه تهديدات من حالة انكماش الأسعار المستمرة.
وقالت هوي شان، كبيرة الاقتصاديين المعنيين بالصين في بنك «غولدمان ساكس» لصحيفة فايننشال تايمز: «جوهر الخطة الخمسية الخامسة عشرة سيكون على الأرجح إظهار دعم حازم للتكنولوجيا والابتكار والأمن».
وبعد أن كانت هذه الخطط أداة مركزية في الاقتصاد الموجَّه سابقاً، تستخدم بكين اليوم الخطط الخمسية لتحديد أولوياتها السياسية والاقتصادية للمجتمع، مما يجعلها موضع متابعة دقيقة من الحكومات والمستثمرين الأجانب.
وخلال الخطة الخمسية الرابعة عشرة التي تنتهي هذا العام، ساهمت السياسات الصناعية والدعم الحكومي في الصين بتحقيق تقدّم كبير في مجالات التكنولوجيا الخضراء، مثل السيارات الكهربائية، وهو ما شكّل تهديداً للصناعات الأساسية في أوروبا والولايات المتحدة وأثار توترات تجارية متزايدة.
اقرأ أيضاً: رئيس المركزي الألماني: على أوروبا أن تكون أكثر صرامة في تعاملاتها التجارية مع الصين
تشير مؤشرات بكين إلى أنها ستتبنّى النهج ذاته في الخطة الخمسية المقبلة، التي سيجري الإعلان عنها رسمياً في مارس آذار، مع تركيز كبير على الاستثمارات الحكومية الموجّهة نحو التقنيات المتقدّمة، في إطار سعي الرئيس شي جين بينغ لتحقيق «الاكتفاء الذاتي الصناعي والتكنولوجي» بعيداً عن الاقتصادات المتقدّمة بقيادة الولايات المتحدة.
وقالت صحيفة «الشعب» الناطقة باسم الحزب الشيوعي في يوليو تموز إن «السعي نحو مزيد من الاعتماد على الذات وتعزيز القدرات في مجالي العلوم والتكنولوجيا أمر لا غنى عنه لضمان التفوق في التقنيات الحيوية».
ووفقاً ليُهان تشانغ، كبير الاقتصاديين في «مركز الصين» التابع لمؤتمر مجلس الأعمال، فإن الخطة الخمسية المقبلة «ستواصل توجيه الموارد نحو الصناعات الاستراتيجية الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، والطاقة الجديدة، والمواد المتقدّمة، والتصنيع المتطوّر، إضافة إلى ما يُعرف بـ«صناعات المستقبل» مثل واجهات الدماغ والحاسوب».
وأوضح تشانغ أن الصين تنظر إلى الاستثمار كوسيلة لمواصلة تحديث بنيتها التحتية وصناعاتها، ولتوفير دعم مضادّ للتقلّبات في النمو الاقتصادي، وتعزيز موقعها العالمي في مجالات التكنولوجيا الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي.
وأضاف أن «الاستثمارات الموجّهة من الدولة في قوى الإنتاج والبنية التحتية الجديدة تهدف إلى توسيع ‹وسائل الإنتاج›، وخلق فرص عمل، وجذب رأس المال الخاص، وتعزيز الاستقلال الاقتصادي والتكنولوجي، مع تأكيد النفوذ العالمي للصين».
وأشار تشانغ إلى أنّ التركيز المرتقب على القطاع الصناعي اتّضح من خلال الأبحاث التي أجرتها هذا العام «اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح»، وهي الجهة المسؤولة عن التخطيط الاقتصادي في الصين.
فمن بين 32 موضوعاً تناولتها تلك الأبحاث، ركّز 14 منها حصراً على الاستثمار، و8 على الاستهلاك، و3 على التجارة، فيما تناولت البقية مزيجاً من هذه المجالات.
وتنوّعت الموضوعات بين «إنشاء وتنمية منظومة ابتكارية وريادية للمؤسسات الناشئة العملاقة (يونيكورن)» و«وضع سياسات لتطوير مؤسسات جديدة للبحث والتطوير وجامعات بحثية جديدة» خلال فترة الخمس سنوات.
غير أنه، وعلى الرغم من القفزة التي حققتها الصين في صادراتها وتقدّمها التكنولوجي خلال السنوات الخمس الماضية، فقد واجه صانعو السياسات تحدياتٍ كبيرة تمثّلت في ارتفاع معدلات بطالة الشباب، والانكماش الحاد للأسعار، وتراجع طويل الأمد في قطاع العقارات، وضعف ثقة الأسر.
وهذا يعني أنه، رغم أنّ الطلب المحلي لن يكون الأولوية الرئيسية في الخطة الخمسية المقبلة، فمن المتوقع أن تعلن الحكومة عن مزيد من الإجراءات لتعزيز الاستهلاك، إذ بدأت بالفعل بإطلاق إعانات جديدة للأسر، من بينها دعم لتربية الأطفال وللقروض الاستهلاكية.
يتوقّع بعض الاقتصاديين أن تحاول بكين، في إطار خطتها الخمسية المقبلة، تحفيز المسؤولين الحكوميين على مختلف المستويات لزيادة إنفاق الأسر من خلال تحديد أهداف رقمية واضحة.
وقال نينغ تشانغ، كبير الاقتصاديين المتخصصين في الشأن الصيني لدى بنك «يو بي إس»، إن «الحكومة قد تنظر في تحديد هدف رسمي واضح لنسبة الاستهلاك من الناتج المحلي الإجمالي».
وتبلغ نسبة استهلاك الأسر إلى الناتج المحلي الإجمالي في الصين نحو 40%، مقارنةً بنحو 68% في الولايات المتحدة.
شاهد أيضاً: نمو اقتصاد الصين يتباطأ.. بكين تصر على تحقيق مستهدفاتها
أما فريد نيومان، كبير الاقتصاديين في آسيا لدى بنك «إتش إس بي سي»، فقال إنه في حال وضعت الحكومة هدفاً يقضي بزيادة نسبة الاستهلاك إلى الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 5 نقاط مئوية مثلاً، فسيُوجّه ذلك «إشارة قوية جداً إلى الحكومات المحلية، والمؤسسات المملوكة للدولة، والوزارات المركزية، والمجتمع الاستثماري، بأن الحكومة جادّة فعلاً في إعادة توازن الاقتصاد».
وفي ما يتعلّق بالنمو الاقتصادي العام، يعتقد معظم الاقتصاديين أن الخطة الخمسية المقبلة لن تتضمّن هدفاً رقمياً محدداً، إلا أن دعوة الرئيس شي جين بينغ السابقة إلى مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي بين عامَي 2020 و2035 تعني ضمنياً الحفاظ على معدل نمو سنوي يتراوح بين 4.7 و4.8%. ويرى كثير من الاقتصاديين أن معدل النمو الفعلي سيكون أدنى من ذلك نظراً لضعف الطلب المحلي.
وقال شوانغ دينغ وهنتر تشان، وهما اقتصاديان في بنك «ستاندرد تشارترد»، في مذكرة حديثة: «نقدّر أن متوسط النمو المحتمل في الصين قد يبلغ 4.3% خلال السنوات الخمس المقبلة».
وبصورة عامة، يرى نيل توماس، الباحث في الشؤون السياسية الصينية لدى «مركز تحليل الصين» التابع لـ«جمعية آسيا»، أن الخطة الخمسية المقبلة ستُظهر تركيز شي جين بينغ على الأمن والاكتفاء الذاتي بدرجة أكبر من السابق.
وقال توماس في تقريره: «إن تصوّر القيادة في بكين للبيئة الخارجية ازداد قتامة، مع تصاعد التوترات السياسية في الولايات المتحدة وما تسببه من زيادة في حالة عدم اليقين والمخاطر الاقتصادية عالمياً». ولهذا السبب يركّز شي على الاستثمار في التقنيات الجديدة، التي لا تمنح الصين تفوّقاً تكنولوجياً فحسب، بل تسعى أيضاً إلى تعزيز الإنتاجية، وهي العامل الأساسي للنمو الاقتصادي في المستقبل.
وأضاف توماس أن «رفع الإنتاجية يُعدّ أفضل أمل لدى شي للمضي في مشروعه المتمثّل في ‹النهضة الوطنية› في ظل التراجع الديموغرافي وتباطؤ النمو واحتمال العزلة التكنولوجية عن الغرب».
اقرأ أيضاً: شركات التكنولوجيا الكبرى في الصين تجمّد خطط إصدار العملات المستقرة بعد تدخل بكين
قال الباحث نيل توماس، الزميل في مركز تحليل شؤون الصين التابع لجمعية آسيا، إنّ الجلسة الكاملة الرابعة قد تتيح للمحلّلين لمحة نادرة عن الحالة السياسية داخل الحزب الشيوعي في ظلّ حكم شي جين بينغ. وأشار إلى أنّ حملات التطهير المتزايدة التي ينفّذها شي ضد مسؤولي الحزب، في الغالب بتهم الفساد، تعني على الأرجح أنّ عدداً أقلّ من الكوادر سيحضرون اجتماع الاثنين.
وفي وقت متأخّر من يوم الجمعة، أقدمت الصين على إقالة الرجل الثاني في قيادة جيش التحرير الشعبي وثمانية قادة عسكريين كبار آخرين، في إطار عملية تطهير عسكرية واسعة.
وأضاف توماس أنّ مصير عشرات من الأعضاء الأصليين للجنة المركزية، التي تضم 205 أعضاء و171 عضواً احتياطياً، أصبح غامضاً بعد تأكيد أو تداول أنباء عن خضوعهم لتحقيقات في قضايا فساد.
وقال توماس: «لقد أظهر شي أنّه مستعدّ لإقصاء أشخاصٍ كان قد رقّاهم سابقاً، إذا كان ذلك من شأنه تعزيز نزاهة الكوادر وكفاءة الجهاز البيروقراطي».
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي