بعد أيام من تسميته لتشكيل الحكومة، أعلن رئيس الوزراء الفرنسي الجديد، سيباستيان لوكورنو، أنه سيتخلى عن الخطة المثيرة للجدل التي طرحها سلفه فرانسوا بايرو، والهادفة إلى إلغاء عطلتين رسميتين لتقليص عجز الميزانية.
وقال لوكورنو في مقابلة مع صحيفة لا بروفانس الفرنسية "لقد قررت سحب مقترح إلغاء يومي العطلة"، مشدداً على أهمية إطلاق حوار جديد مع الشركاء الاجتماعيين للبحث عن بدائل لتمويل ميزانية 2026، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية.
اقرأ أيضاً: احتجاجات «لنغلق كل شيء» تحرم رئيس وزراء فرنسا الجديد من بداية هادئة
وكان بايرو قد قدّر أن إلغاء يومي عطلة سيؤمّن نحو 4.2 مليار يورو، نحو 4.9 مليار دولار، لميزانية 2026.
أصبح سيباستيان ليكورنو سابع رئيس وزراءٍ للرئيس إيمانويل ماكرون، ويواجه نفسَ التحدي الذي واجهه العديد من أسلافه في إصلاح المالية العامة دون أغلبيةٍ برلمانية.
يأتي هذا الموقف بعد يوم واحد فقط من خفض وكالة التصنيف الائتماني فيتش لتصنيف فرنسا من AA- إلى A+، الذي وجه ضربة قاسية للاقتصاد الفرنسي، حيث حذرت فيتش من أن الدين العام الفرنسي سيستمر بالارتفاع حتى عام 2027 ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة.
معارضة متزايدة
أثار خفض التصنيف موجة انتقادات واسعة، حيث حمّل قادة اليمين المتطرف واليسار الراديكالي المسؤولية الرئيس إيمانويل ماكرون، مطالبين بـ"القطيعة مع الماكرونية".
فقد اعتبرت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان أن سياسات ماكرون تمثل "سماً قاتلاً"، فيما دعا زعيم اليسار المتشدد جان لوك ميلانشون إلى إنهاء "السياسات المدمرة" للرئيس.
أما رئيس الوزراء السابق فرانسوا بايرو، الذي اضطر للاستقالة بعد خسارته تصويت الثقة في البرلمان، فقد دافع عن خطته، قائلاً إن فرنسا بلد "يرفض الحقيقة ويُجبر على دفع الثمن".
ألمح لوكورنو إلى إمكانية مناقشة مقترحات ضريبية جديدة، من بينها الضريبة على الأثرياء المعروفة باسم «ضريبة زوكمان»، لكنه أكد أن أي خطوة يجب أن تتم في إطار أوسع من "العدالة الضريبية".
غير أن اتحاد أرباب العمل الفرنسي MEDEF حذر فوراً من أنه سيتحرك لمواجهة أي زيادات ضريبية تستهدف الشركات في الموازنة الجديدة.
اقرأ أيضاً: الميزانية تسقط الحكومة الفرنسية.. البرلمان الفرنسي يصوت بحجب الثقة عن بايرو
وفي وقت متأخر من يوم الجمعة، غيّرت الوكالة تصنيف فرنسا طويل الأجل من AA- مع نظرة مستقبلية سلبية إلى A+ مع نظرة مستقبلية مستقرة، مشيرةً إلى أن عدم الاستقرار السياسي أثار شكوكًا حول قدرة البلاد على خفض عجزها.
التشرذم وعدم الاستقرار
وانهارت حكومة الأقلية برئاسة فرانسوا بايرو بعد تصويت بحجب الثقة هذا الأسبوع على خططه لحزمة مالية بقيمة 44 مليار يورو لتقليص العجز. وكان بايرو ثاني رئيس وزراء يسقط خلال عام بسبب محاولات الحكومة إصلاح المالية العامة لفرنسا.
قالت وكالة فيتش إن التصويت "يُظهر تزايد التشرذم والاستقطاب في السياسة الداخلية"، مضيفةً أن عدم الاستقرار يجعل خفض العجز إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2029، كما تستهدفه حكومة بايرو، "أمراً مستبعداً".
عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيباستيان ليكورنو، وهو حليف آخر، ليحل محل بايرو. وفي ظل غياب الأغلبية البرلمانية، يواجه ماكرون نفس التحديات السياسية في إقرار ميزانية من خلال برلمان منقسم.
ومن المتوقع أن يدفع باتجاه تسوية مع المدعين العامين اليساريين بشأن اقتراح ميزانية جديد، لكن أي اتفاق سيتطلب أهدافاً أقل طموحاً لخفض العجز.
توقعات بارتفاع العجز
تجاوزت فرنسا أهدافها في العجز العام الماضي بكثير بعد تقديم توقعات غير دقيقة بشأن عائدات الضرائب، مما أدى إلى وصول العجز إلى 5.8% في عام 2024، وهو ما يتجاوز بكثير حدود الاتحاد الأوروبي البالغة 3%. وتتوقع الحكومة أن ينخفض العجز إلى 5.4% بحلول نهاية عام 2025.
ومع ذلك، توقعت وكالة فيتش أن يظل العجز أعلى من 5% في 2026-2027، مضيفةً أن هناك "احتمالًا كبيراً لاستمرار الجمود السياسي بعد الانتخابات الرئاسية لعام 2027".
تكاليف الاقتراض
أدى الضيق السياسي في فرنسا إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض إلى ما يقرب من أعلى مستوياتها منذ أزمة ديون منطقة اليورو قبل أكثر من عقد. وارتفع العائد القياسي لعشر سنوات إلى أكثر من 3.6% في الأيام التي سبقت استقالة بايرو، ثم عاد قليلاً إلى 3.49%.
يبلغ الفارق بين عائد سندات الخزانة الألمانية القياسية، وهو مقياس لقلق المستثمرين يراقبه الاقتصاديون عن كثب، حوالي 0.8 نقطة مئوية، وهو أعلى بكثير من مستواه المعتاد بعد الأزمة مع اقتراب تكاليف الاقتراض الفرنسية من تكاليف إيطاليا، التي لطالما كانت محور اهتمام مخاوف ديون منطقة اليورو.
وفي تصريحات لصحيفة فاينانشال تايمز قال إريك دور، الخبير الاقتصادي في كلية إدارة الأعمال IÉSEG، إن خفض التصنيف "يؤكد حقيقة مشكلة المالية العامة الفرنسية، لكن الأسواق سبقت وكالات التصنيف". وأضاف: "نحن لا نتداول كدولة ذات تصنيف AA-. وهذا يُظهر أهمية التوصل أخيراً إلى توافق في الآراء بشأن استقرار الدين العام".
تنبع مشاكل العجز جزئياً من الإنفاق الضخم لدعم الشركات والأسر خلال جائحة كوفيد-19 وأزمة الطاقة التي أشعلها غزو روسيا لأوكرانيا.
كما أدت تخفيضات ماكرون الضريبية على الشركات وملاك العقارات والأثرياء إلى خفض حصيلة الضرائب العامة، في حين أن الدفعة المتوقعة للنمو لم تكن كبيرة كما كان متوقعاً.
وأشارت فيتش إلى أن فرنسا عانت طويلًا من أجل خفض الإنفاق الاجتماعي الإجمالي، الذي يبلغ 32% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنةً بمتوسط الاتحاد الأوروبي البالغ 26%.
الديون المفرطة
تخضع فرنسا بالفعل لإجراءات ديون مفرطة من قبل المفوضية الأوروبية، كجزء من قواعد بروكسل المالية للحفاظ على المالية العامة تحت السيطرة ومنع عجز الموازنة السنوية للدول الأعضاء من تجاوز 3% من الناتج المحلي الإجمالي.
احتمال زيادة الإنفاق الدفاعي يضغط، بدروه، على المالية العامة لفرنسا. وقد تعهد ماكرون بزيادة ميزانية الدفاع الفرنسية بمقدار 6.5 مليار يورو على مدى عامين، استجابةً لدعوات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لأعضاء حلف الناتو لزيادة إنفاقهم العسكري.
ومع ذلك، أشارت وكالة فيتش إلى "اقتصاد فرنسا الكبير والمتنوع ذي الدخل المرتفع"، وعضويتها في منطقة اليورو، وقطاعها المصرفي السليم كأسباب للتفاؤل.
وصرح وزير المالية الفرنسي المنتهية ولايته، إريك لومبارد، بأن ليكورنو "بدأ بالفعل في استشارة القوى السياسية في البرلمان، بهدف اعتماد ميزانية وطنية ومواصلة الجهود لإعادة بناء ماليتنا العامة".
وتنتظر الأسواق أيضاً مراجعة وكالة ستاندرد آند بورز S&P Global للتصنيف الائتماني لفرنسا في نوفمبر المقبل، وهو ما قد يضع مزيداً من الضغوط على الحكومة الجديدة.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي