شهدت الدنمارك عدداً من الوقائع المتتالية لإغلاق مطارات بسبب رصد طائرات مُسيرة في مجالها الجوي بالقرب من تلك المطارات، وهو ما يثير التساؤلات بشأن مدى قوة الحماية المتوفرة للمجال الجوي الأوروبي، ومدى الخطر الذي يشكله هذا النوع من الطائرات على الأمن في القارة العجوز خاصة أن الدنمارك ليست من الدول الأورويبة الأقرب لمواقع الصراع الروسي الأوكراني.
وشهدت ليلة الخميس إغلاق المجال الجوي فوق مطار ألبورغ لفترة تصل إلى نحو الساعة بعد الاشتباه في تحليق طائرات مُسيرة، وهو الحادث الثالث من نوعه خلال أقل من أسبوع وذلك بعد إغلاق المجال فوق نفس المطار، الذي يُستخدم للرحلات التجارية والعسكري، في اليوم السابق، وهو ما جاء بعد يومين من إغلاق مطار كوبنهاغن، وكذلك مطار أوسلو في النرويج لنفس السبب.
وبحسب تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، كشفت الحوادث الأخيرة في الدنمارك عن نقاط ضعف في المجال الجوي الأوروبي، وأثارت تساؤلات بشأن كيفية استجابة المطارات والسلطات لمثل هذه الخروقات.
يأتي ذلك في الوقت الذي يشهد توجيه انتقادات للمسؤولين في الدنمارك بسبب عدم الإعلان عن تحديد أو إسقاط أي من الطائرات المُسيرة التي رُصدت في ستة مواقع منفصلة بالقرب من مطارات مدنية وعسكرية خلال الأسبوع الجاري.
من جانبها لم تستبعد رئيسة الوزراء الدنماركية ميت فريدريكسن أن تكون روسيا وراء حادثة يوم الثلاثاء في مطار كوبنهاغن، وذلك بعد إدانة حلف شمال الأطلسي "الناتو" والاتحاد الأوروبي ما وصفه بسلوك روسيا "المتهور" مع اتهامها باختراق المجال الجوي لدول مجاورة لروسيا وأوكرانيا عبر طائرات مُسيرة تم رصدها.
وخلال هذا الشهر، أسقطت طائرات تابعة لحلف الناتو طائرات مُسيرة دخلت المجال الجوي البولندي مع توجيه أصابع الاتهام إلى روسيا، بينما سارعت رومانيا إلى إرسال طائرات مقاتلة عندما حلقت طائرة مُسيرة قادمة من البحر الأسود، وأرسلت إستونيا طائرات مقاتلة تابعة للناتو عندما اخترقت طائرة مجالها الجوي.
وبينما تضمنت الحوادث في الدنمارك، التي لا تُعد دولة تقع على ما يُسمى بالجناح الشرقي لأوروبا، طائرات مُسيرة مجهولة المصدر، خاصة مع وقوع المشاهدات خلال الليل، فإن روسيا في المقابل تنفي بشدة تورطها في هذه الحوادث.
وقالت رئيسة وزراء الدنمارك، في وقتٍ متأخرٍ من يوم الخميس، إنها لا تعرف من يقف وراء الطائرات المُسيرة الخمس التي شُوهدت في وقت سابق من ذلك اليوم فوق مطارات إقليمية ومنشآت دفاعية. وقال وزراء في الحكومة الدنماركية إنه يبدو "جهة مُحترفة".
اقرأ أيضاً: ترامب: ينبغي على دول حلف الناتو إسقاط طائرات روسيا التي تخترق مجالها الجوي
هل تشكل طائرات "الدرونز" خطراً على الأمن الأوروبي؟
من المحتمل أن تحمل الطائرات المُسيرة في ذلك تكرار تلك الحوادث، ومع استخدامها بشكل مكثف خلال الحرب الروسية الأوكرانية، خطراً على الأمن الأوروبي خاصة على الدول التي ليس لها باع في مجال الحروب والعسكرية، على الأقل في الوقت الراهن.
وقال وزير الدفاع الدنماركي، ترويلز لوند بولسن، إن بلاده واجهت "طائرات بدون طيار يُحتمل إطلاقها من جوارنا". إحدى النظريات هي أنه ربما تم إطلاقها من سفن تعبر بحر البلطيق.
ونفذت الحكومة الدنماركية سلسلة من الاستثمارات العسكرية رفيعة المستوى في الأسابيع القليلة الماضية، بما في ذلك في أنظمة دفاع جوي متوسطة وبعيدة المدى، بالإضافة إلى صواريخ بعيدة المدى قادرة على ضرب روسيا.
ومع ذلك أقر وزير الدفاع بأنه "لا يمكننا اليوم تقديم حل يزيل تهديد الطائرات المُسيرة"، على الرغم من إصراره على أن كوبنهاغن ستشتري "كل ما يلزم".
وكان إلغاء الرحلات الجوية لآلاف الركاب خلال الحوادث الأخيرة بمثابة دليل على الفوضى التي يمكن أن تجلبها حرب الطائرات المُسيرة المتطورة بشكل متزايد، وهو ما يعبر عن حاجة أوروبا لمواجهة شكل جديد ومثير للقلق من العدوان الجوي بصورة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، بحسب صحيفة التلغراف البريطانية.
وتطلب الدنمارك المساعدة من أوكرانيا، بما في ذلك خلال اجتماع اليوم الجمعة تضمن عرض الاتحاد الأوروبي تنسيق الحصول على التكنولوجيا الأوكرانية لبناء "جدار دفاعي ضد الطائرات المُسيرة" على حدودها الشرقية.
وخلال فترة الحرب الروسية الأوكرانية، طورت كييف قدرات مضادة للطائرات المسيرة رخيصة التكلفة بشكل لا تضاهيها فيه أي دولة أوروبية أخرى، مثل استخدام أجهزة استشعار صوتية، ودوريات متنقلة تستخدم مدافع رشاشة ثقيلة ومدافع مضادة للطائرات، ومؤخراً طائرات اعتراضية بدون طيار رخيصة التكلفة.
وأعلن مفوض الاتحاد الأوروبي للدفاع والفضاء أندريوس كوبليوس أنه تم الاتفاق خلال الاجتماع على أن "جدار التصدي للطائرات المُسيرة" سيكون ذا الأولوية الفورية، مع قدرات متقدمة للكشف والتتبع والاعتراض.
كما تم الاتفاق على تعزيز الدفاعات الأرضية، مثل أنظمة منع الحركة، والأمن البحري في بحر البلطيق والبحر الأسود، والوعي الظرفي القائم على الفضاء، أي إدراك الأوضاع باستخدام الفضاء مثل استخدام الأقمار الصناعية وغيرها من الأدوات، بحسب ما ذكره كوبليوس في بيان يوم الجمعة.
ومع ذلك، أقرّ وزير الدفاع الدنماركي، هذا الأسبوع بصعوبات تواجه بلاده، قائلاً: "يجب أن نتحلى ببعض الصراحة: فرغم امتلاكنا للأدوات المناسبة، لا يزال من الممكن أن تكون هناك طائرات بدون طيار نواجه صعوبة في اكتشافها نظراً للتطور التكنولوجي الكبير".
اقرأ أيضاً: بعد اختراق المجال الجوي لبولندا.. كيف تختبر روسيا الغرب باستراتيجية "تقطيع السلامي"؟
لماذا ركزت الطائرات المُسيرة على المطارات؟
يُقرّ دليل سلامة الطائرات المُسيرة، الصادر عن وكالة سلامة الطيران التابعة للاتحاد الأوروبي، بأنه "نظراً لاحتمالية حدوث آثار كارثية عقب اصطدام" بين طائرة وأخرى، فإنّ مُشغّلي المطارات "غالباً ما لا يملكون خياراً سوى إيقاف أو تقييد عمليات المدارج، مما يؤدي إلى اضطراب شديد في الحركة الجوية".
أيضاً لا تستطيع رادارات المطارات رصد الطائرات المسيرة، لذا فإنّ الطريقة الوحيدة لاكتشافها هي عبر الإشارات اللاسلكية. وتكمن المشكلة التي تواجهها المطارات في أنّ "التحيز للسلامة أولاً" معروف على نطاق واسع لدى أيّ شخص يسعى إلى إحداث اضطراب، وهو ما يعد أحد أبرز تفسيرات وجود الطائرات المُسيرة قرب المطارات في الحوادث الأخيرة.
وقال أحد خبراء السلامة الجوية الأوروبيين لصحيفة فايننشال تايمز: "لن يُخاطر أحد، وخاصةً جهات إنفاذ القانون أو مراقبة الحركة الجوية، بأدنى قدرٍ من المخاطرة بعدم إغلاق المطار - وهو ما قد يكون بالضبط ما يسعى إليه البعض".
في حين أن عدداً قليلاً من المطارات قادر على إسقاط الطائرات بدون طيار، فإنّ الشرطة غالباً ما تكون مسؤولة عن التشويش عليها أو إطلاق النار عليها.
ويكمن جزء كبير من المشكلة في عدم التكافؤ في المخاطر والتكاليف بين الدفاع والهجوم باستخدام الطائرات المُسيرة. ويصعب اكتشاف الطائرات الصغيرة رباعية المراوح بدون رادار متخصص، كما أن أجهزة التشويش يمكن أن تعطل الاتصالات الأخرى في المنطقة.
احتمالية تنوع الأهداف
هناك مشكلة أخرى تتمثل في تنوع الأهداف المحتملة لاستخدام هذه النوعية من الطائرات في شن هجمات أو التسبب في خسائر بدول أوروبية.
وقال الزميل البارز في قسم الفضاء العسكري في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، دوغلاس باري، لصحيفة فايننشال تايمز: "يُشير ذلك إلى التحدي المُتمثل في حماية البنية التحتية الحيوية".
وأضاف باري: "هناك ثروة هائلة قد يسعى أي مُجرم إلى استغلالها لإحداث الأذى. من السهل جداً القيام بذلك، ومن الصعب جداً مواجهته".
وفي حين أن الجاني في هذه الحوادث لا يزال مجهولاً، كانت روسيا تختبر باستمرار ردود فعل أعضاء الناتو بعملياتٍ "طمسَت الخطوط الفاصلة بين الدفاع وإنفاذ القانون"، بحسب ما قاله المُحلل في معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية، جوزيبي سباتافورا، للصحيفة البريطانية.
وبينما ركزت الحوادث الأخيرة في الدنمارك على المطارات، فإن هناك العديد من الأهداف المحتملة الأخرى، من مواقع الطاقة إلى المستشفيات والمباني الحكومية وخطوط الأنابيب والكابلات المختلفة.
وقال دوغلاس باري: "إن رسم خرائط البنية التحتية الوطنية الحيوية وحمايتها مهمة ضخمة خصوصاً عندما لا يسعى المخربون إلى تدميرها وإنما إلى إثارة الفوضى".
اقرأ أيضاً: ماكرون: فرنسا تعتزم نشر 3 طائرات رافال للمساهمة في حماية المجال الجوي لبولندا
لماذا لم تسقط السلطات الدنماركية الطائرات المسيرة؟
عندما سؤالهم عن سبب عدم إسقاطهم للطائرات المسيرة، أكد أفراد الشرطة والجيش الدنماركيون أن لديهم القدرة على القيام بذلك، لكنهم اختاروا عدم القيام بذلك، بحسب صحيفة فايننشال تايمز.
وأوضحوا أنهم امتنعوا عن إسقاط طائرتين أو ثلاث طائرات مُسيرة كبيرة مساء الاثنين فوق مطار كوبنهاغن، بسبب قرب الطائرات المحمّلة بالوقود والركاب، بالإضافة إلى مساكن السكان المحليين.
ومن جانبه، قال رئيس أركان الدفاع الدنماركي، مايكل هيلدغارد، إن الجيش كان مستعداً لإسقاط الطائرات المُسيرة يوم الخميس، لكنه قرر عدم القيام بذلك بعد "تقييم شامل" للمخاطر.
وانتقد سياسيون معارضون الحكومة لعدم استخلاصها دروس السنوات الثلاث والنصف الماضية من الحرب في أوكرانيا. وقال رئيس حزب التحالف الليبرالي، أليكس فانوبسلاغ: "إنه أمر محرج ومخيف في آن واحد. والحكومة مدينة للدنمارك بضبط هذا الوضع".
لكن المحلل الدفاعي الفرنسي، فرانسوا هايسبورغ، يرى أنه من الصعب لوم الحكومة الدنماركية أو الاستنتاج بأنها تفتقر إلى التكنولوجيا أو العقيدة اللازمة لمواجهة الطائرات المُسيرة، بحسب ما قاله لفايننشال تايمز.
وأضاف هايسبورغ: "الدنماركيون في عالم خاص، ليسوا في حالة حرب، لكنهم قد يكونون كذلك".
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي