جيفونز واقتصاديات البيئة وتغير المناخ

نشر
آخر تحديث

استمع للمقال
Play

بقلم مؤيد الشيخ حسن
مهندس يعمل ويقيم في فرنسا مختص في الطاقات المتجددة والهندسة الحرارية والبيئة وفي حلول الهندسية لمكافحة التغير المناخي.

 

 

تحصل مفارقة جيفونز الاقتصادية عندما تقوم السياسات الحكومية العامة والتطور التكنولوجي بزيادة كفاءة الموارد الاقتصادية كمصادر الطاقة، ما يؤدي لارتفاع معدلات استهلاك المورد نتيجة زيادة الطلب عليه.

ويغفل عدد من المهتمين باقتصاديات البيئة النظر عن هذه الفرضية، ويفترضون بأن ارتفاع كفاءة المورد الاقتصادي، وتقدمه التكنولوجي سوف يقلل من استهلاكه في الكثير من المواد الاقتصادية المرتبطة بالبيئة، ويضربون مثالاً عن ذلك بأن مستهلكي المنتجات العضوية، يدركون مخاطر الاستهلاك نتيجة ارتفاع الوعي البيئي، وبالتالي فإن تحسين كفاءة هذه المنتجات سوف يقلل من استهلاكها لدى هذه الشريحة التي أضحت كبيرة العدد حول العالم، نتيجة الوعي البيئي.

وظهرت فرضية جيفونز لأول مرة عندما لاحظ الاقتصادي الانكليزي ستانلي جيفونز عام 1865، بأن التحسينات التي تلت ابتكار جيمس واط للمحرك البخاري وتطور وتحسن كفاءة الوقود أدى لزيادة استهلاك الوقود بشكل كبير، ما أدى لتنمية وتطور الاقتصاد الكلي.

وبرهن جيفونز وقتها، أن هذا التطور سوف يزيد من استهلاك الفحم ، وظهرت مخاوف كبيرة من تناقص احتياطات الفحم الحجري، نتيجة زيادة الاستهلاك، نتيجة زيادة الطلب، وأشار إلى ضرورة  البحث عن موارد جديدة، نتيجة زيادة الاستهلاك المضطرد.

 


الأسباب والواقع

 


تشير غالبية الاستطلاعات إلى توجه المستهلك للسفر بشكل أكبر عندما يستخدم وسائل نقل أكثر كفاءة من ناحية استهلاك الوقود، مما يسبب ارتفاعاً في الطلب على الوقود.

وتؤدي الزيادة في استخدام الوقود كمورد اقتصادي، إلى انخفض كلفة استهلاكه واستخدامه، مما سيزيد الطلب على الوقود المطور، وتسمى هذه الزيادة على الطلب بتأثر الارتفاع، وتختلف نسبتها حسب السلعة، وقد تكون صغيرة أو كبيرة بما يكفي لتعويض قيمة الانخفاص الأصلي في استخدام الوقود الناتج عن زيادة الكفاءة، وتحصل مفارقة جيفونز عندما يكون تأثير الارتفاع أكثر من الضعف، أي مايزيد عن مئة بالمئة، متجاوزاً مكاسب الكفاءة الأصلية.

ويميل المواطن اليوم في أوروبا الغربية وكندا وأميركا، بعد تزايد اهتماماته بقضايا البيئة والمناخ، لزيادة استهلاك الموارد الصديقة للبيئة، ويميل المواطن الفرنسي وسكان دول اسكندنافيا، للسفر أكثر باستخدام السيارات الشخصية صديقة البيئة كالكهربائية والهجينة، بعدما كان يفكر ملياً في البصمة الكربونية ومقدار تلويث سياراتهم المعتمدة على الوقود التقليدي، كما يعزز تطور وسائل النقل الجماعية الكهربائية كالمترو والتراموي والقطارات السريعة، ذات البصمة البيئية الضعيفة، الرغبة في السفر والتنقل، الأمر الذي يثبت صحة نظرية جيفونز .

وفي سياق مشابه تم الترحيب بالانخفاض في استهلاك وقود الطائرات الكيروسين باعتباره خبراً ساراً للبيئة، وانخفضت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لكل طائرة بنسبة 60% بين عامي 1960 و 2000، لكن الانخفاض الناتج في التكاليف، خلق طفرة جديدة في تزايد استهلاك وقود الطائرات وازدياد أعداد المسافرين على متنها.
كما أن التطور في علوم الكهرباء والإنارة، أوصلنا لتقنيات الليد LED منخفضة الاستهلاك، بالمقابل أدى إلى انفجارات عددية في استخدامها، وأصبحت الشاشات تغزو جميع الأماكن، تحولت فيها لأشكال من التلوث الإعلاني والبصري.

 

تطور في الاقتصاد الكلي

 


يعزز التحول نحو الاقتصاد البيئي، إمكانية فتح آفاق جديدة لفرص العمل، وتشير توقعات الحكومة الفرنسية إلى أن التحول الإيكولوجي سيوفر مايزيد عن مليون فرصة عمل جديدة في السنوات القليلة القادمة، الأمر الذي يشكل رداً على المشكيين بأن هذه التحولات الكبرى ستودي بعشرات الألاف من العمالة الخبيرة للبطالة نتيجة انحسار الحاجة لمهنهم، بالمقابل يشكك الكثيرون بصحة هذه الفرضية، بحجة أن هذه العمالة الخبيرة بحاجة فقط لتأهيل بسيط، لتدخل دورة الاقتصاد الجديد، ما ينعكس على تنمية الاقتصاد الكلي للدولة، ما يسد الخسارات المتوقعة من عملية التحول الاقتصادي.

وبرز في الآونة الأخيرة توجه عام لدى شركات الطاقة والشركات الهندسية والتكنولوجيا العملاقة كعملاقي الطاقة شيل الهولندية وتوتال الفرنسية والتكنولوجيا غوغل الأميركية، للاستثمار في التكنولوجيا الخضراء، عن طريق شراء شركات ناشئة صغيرة ومتوسطة للاستثمار فيها، نتيجة ما تحمل من كفاءات واعدة قادرة على الابتكار والتطوير السريع، و مرونتها في تبني العمل الحديث القائم على الابتكار، على خلاف آليات عمل الشركات العملاقة التقليدية، هذا التوجه ربما سيحافظ على ريادة الشركات الكبيرة في أسواق العمل الجديدة الخضراء، نتيجة خبراتها المتراكمة الكبيرة، واستيعابها لأنماط التفكير المستقبلية، نتيجة هذه الاستثمارات.

وسيخلق هذا التحول الجديد تشاركية أوسع ودوراً أكبراً لأفراد المجتمع في صنع القرار وفي خلق دورات اقتصادية جديدة، عن طريق انشاء ما يشبه تعاونيات اقتصادية جديدة بين السكان المحليين، ففي ألمانيا تمول البنوك مشاريع طاقات متجددة بفوائد شبه معدومة تتيح للراغبين بناء محطات طاقة شمسية، وبيع الفائض للحكومة، كما انتشرت مؤخراً في الجنوب الفرنسي، تعاونيات استثمارية بين سكان القرى لبناء عنفات ريحية، توفر الطاقة النظيفة للسكان المحليين، وبيع الفائض للشركات الأكبر، مما يحقق فائض ربح يعود بالنفع على الأشخاص والإدارات المحلية، مايؤدي لارتفاع معدلات التنمية والتطوير المحليين.


بيل غيتس واستثمارات المناخ


بدأ رائد الأعمال الأميركي بيل غيتس منذ سنوات بالاهتمام في قطاع مكافحة تغير المناخ من خلال صندوقه المالي المخصص لمكافحة غازات الكربون، وتحول اليوم لجزء أساسي من دأبه اليومي.

وتشكل هذه الاستثمارات مظلة حول العالم لمئات من الشباب المبتكرين الطامحين، فعلى سبيل المثال خصص  20 مليون دولار للسعي لتطوير أنظمة تكييف هواء نظيفة صديقة للبيئة، مبرراً توجهه هذا على اعتبار أن 2 مليار جهاز تكييف منتشر حول العالم، مسؤول عن 4% من اصدارات الكربون العالمية، ومحزراً من أن نمو هذا القطاع سيؤدي لزيادة أعداد أجهزة التكييف بمقدار مليار جهاز في السنوات العشر القادمة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وتغير المناخ.

ومنطق التفكير هذا يثبت صحة فرضية جيفونز، فالتقدم التكنولوجي سيزيد من الاستهلاك، من ناحية أخرى فإن تطوير هذا القطاع وسعي بيل غيتس للعمل فيه، من المؤكد سوف يقلل الانبعاثات بنسبة ما، لكن بالمقابل قد يخلق مشاكل بيئية أخرى.

وبالمقابل يطرح تساؤل آخر مقابل هذا التوجه، لماذا لا يستثمر غيتس في قطاع العزل الحراري للمباني على سبيل المثال، فتطوير هذا القطاع سيشكل فارقاً هاماً في انبعاثات الكربون أيضاً وبنسبة أكبر.

رغم أن هذا الاستثمار وأي استثمار مشابه، سوف يتعرض أيضاً لمفارقة جيفونز في الظل، حيث تؤكد عدة دراسات تهتم بسلوكيات المستهلكين بأن الأشخاص الذين تنخفض فواتير الطاقة في بيوتهم، يميلون إلى زيادة درجة حرارة التدفئة شتاء، وعندما لا يفعلون ذلك يقومون بإنفاق ما إدخروه من فواتير الطاقة، على السفر لقضاء الإجازات بالطائرات على سبيل المثال.

من الضروري اليوم إعادة النظر بآليات التفكير المنهجي للاقتصاد البيئي أجل تخفيف أثر نظرية جيفونز التي تشمل جميع أشكال الموارد الاقتصادية.

ما لم نقرأ نهجنا وآليات عمل الضابطة للتحول نحو الاقتصاد البيئي، سوف نقع في اشكاليات جديدة، فالمسألة ليست رفض لاقتصاديات البيئة وتطوير كفاءة الطاقة، لأن تغير المناخ والتحول لاقتصاديات البيئة، أصبحت ضرورة ملحة وليست رغبة، بل محاولة لتطوير مناهج العمل والآليات الكلية الضابة لعملية التحول.

ولكي تكون الاستثمارات في توفير الطاقة منطقية، يجب أن يتم مراعاة فرضية جيفونز،  وتمتلك الدول أدوات عديدة لتحقيق ذلك كالضرائب والحصص، وربط مقدار هذه الضرائب بالثراء وجعلها تصاعدية حسب قيمة رؤوس الأموال ومساهمتها في انبعاثات غازات الكربون الملوث.

 يتم ذلك من خلال إجراء دراسات شاملة لجدوى الاستثمار في كل حل من الحلول، لتجنب وقوع خسائر، والوصول للحلول المثلى، فاليوم لكل مشكلة مجموعة حلول ولكن لها حلّ أمثل، علينا البحث عنه للوصول لنتائج اقتصادية ايجابية بأقل الخسائر والتكاليف.

تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي

الأكثر تداولاً

    أخبار ذات صلة

    الأكثر قراءة

    الأكثر تداولاً

      الأكثر قراءة