أخيراً أُسدل الستار على المفاوضات المتوترة بين أميركا وأوكرانيا من أجل التوصل إلى اتفاق بشأن استغلال احتياطيات المعادن الأوكرانية، وكيفية تعويض الولايات المتحدة عن مساعداتها المالية والعسكرية لكييف، وذلك بعد الإعلان عن توقيع اتفاق شراكة يوم الأربعاء يتيح إعادة إعمار أوكرانيا وفي نفس الوقت يسمح بتمويل مشروعات لاستخراج المعادن والنفط والغاز.
جاء توقيع الاتفاق، الذي ينتظر التصديق عليه من البرلمان الأوكراني، بعد محادثات شاقة بين البلدين تخللها اختلافات وتوترات حادة، بل تعدى الأمر إلى خلافات علنية بشأن قضايا أوسع نطاقاً أمام الشاشات بين رئيسي البلدين، مما هدد بعدم إبرام الاتفاقية.
تعود الفكرة بشأن استغلال الثروات المعدنية الأوكرانية إلى ما قبل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة لفترة ثانية، وهي التي طرحتها أوكرانيا بقيادة الرئيس فولوديمير زيلينسكي لكنها لم تكن على الصورة التي رغبتها إدارة ترامب في بداية المفاوضات.
اقرأ أيضاً: أميركا وأوكرانيا توقعان اتفاقية شراكة.. وكييف: ستتيح تمويل "مشروعات لاستخراج معادن ونفط وغاز"
كيف بدأت فكرة الاتفاقية؟
تعود أصول الاتفاقية إلى أوائل الصيف الماضي، عندما كلف الرئيس الأوكراني مستشاريه بوضع استراتيجية لتأمين دعم أميركي طويل الأمد وتحويل مسار الحرب مع روسيا لصالح كييف، بحسب صحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
جمعت خطة "النصر" المكونة من خمس نقاط بين مقترحات أمنية وشراكات اقتصادية استراتيجية. وقال مسؤول مُقرب من الرئيس الأوكراني بأنها "محاولة لتغيير مسار الحرب وجلب روسيا إلى طاولة المفاوضات... زيلينسكي يؤمن بها إيماناً راسخاً".
ودعت النقطة الرابعة إلى فتح موارد أوكرانيا الطبيعية أمام الاستثمارات الغربية، وهو مفهوم مستوحى جزئياً من السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام. في المقابل، كان من المفترض أن تحصل كييف على دعم عسكري أميركي أكبر وأفضل وأكثر للدفاع عن نفسها، إن لم يكن لاستعادة الأراضي المفقودة.
في ذلك الوقت لم يُبدِ الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، عندما كان يقبع في البيت الأبيض، حماساً يُذكر لتوفير كميات هائلة من الأسلحة الغربية الإضافية، خشية أن تُستنزف هذه الزيادة المخزونات الأميركية أو تُؤدي إلى تصعيد روسي. مع ذلك، أظهر البيت الأبيض اهتماماً باتفاقية اقتصادية مشتركة بين البلدين.
لكن نظراً لاستطلاعات الرأي التي كشفت عن تقدم ترامب في السباق الرئاسي الأميركي، اختار فريق زيلينسكي إرجاء دراسة صفقة المعادن مع إدارة بايدن، وقرر بدلاً من ذلك تعظيم نفوذه المحتمل مع أي إدارة قادمة لترامب.
وعرض رئيس أوكرانيا الخطة على ترامب في سبتمبر/ أيلول الماضي، في "برج ترامب" وذلك قبل انتخابات الرئاسة التي فاز بها بنحو شهرين، وكانت ردود الأفعال الأولى واعدة. فرغم وصف ترامب لزيلينسكي قبل أيام من الاجتماع بأنه "أعظم بائعٍ في التاريخ" لإقناعه الولايات المتحدة بتمويل دفاعه عن أوكرانيا، فإن ترامب ردّ بـ"اهتمام" على الخطة المقترحة، بحسب ما ذكر أشخاص حضروا الاجتماع للصحيفة.
وبعد أن باع زيلينسكي الفكرة لترامب، ازداد اهتمام الأخير، الذي يدّعي أنه خبيراً في عقد الصفقات، بالجانب الاقتصادي وفكرة تأمين المعادن النادرة مقابل استمرار المساعدات الأميركية.
لم تتخيل كييف، في وقت عرض الخطة، مدى شغف ترامب الشديد بمعادن أوكرانيا، أو مدى الكارثة التي ستُشكّلها المفاوضات على أوكرانيا، ورئيسها، وعلى احتمالات مواجهة الجانب الروسي في الحرب.
مسار مضطرب للمفاوضات وخلافات علنية.. ماذا حدث؟
استغرق ترامب، بعد توليه منصبه كرئيس للولايات المتحدة، أسبوعين قبل أن يُعلن بشكل علني عن ربط الدعم الأميركي بإمكانية الوصول إلى الثروة المعدنية لأوكرانيا، وفاجئ الرئيس الجانب الأوكراني بمطالبته بـ 500 مليار دولار كتعويض مستحق عن المساعدات الأميركية السابقة - وهو ما يمثل ضعف الدعم الفعلي الذي تم تقديمه.
تسببت مفاجأة ترامب في انزعاج كبار المسؤولين الأوكرانيين، كما ازداد قلقهم من عدم التنويه بأي دعم عسكري مستقبلي من الولايات المتحدة. لكن كييف كان لها تخطيط آخر عبر المحادثات، بهدف الحصول على شروط أفضل والحفاظ على رضا ترامب.
اقرأ أيضاً: طريق صعبة للتوصل إلى اتفاق المعادن بين أميركا وأوكرانيا وسط اجتماعات متوترة
النسخة الأميركية الأولى للاتفاق
بعد بضعة أيام من تصريحات ترامب، حمل وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت مسودة اقتراح إلى كييف تتيح للجانب الأميركي امتلاك 50% من حقوق المعادن النادرة والمعادن الأساسية في أوكرانيا، وبدون أي التزام بتقديم أي مساعدة عسكرية أو مالية في المستقبل.
تم إعلام زيلينسكي بالوثيقة قبل ساعة من لقاء بيسنت، الذي كان يتوقع توقيع الجانب الأوكراني عليها قبل انتهاء زيارته. بل إن الرئيس الأوكراني لم يتمكن من الاطلاع على المسودة إلا بفضل السفيرة الأميركية في بلاده، بريدجيت برينك، حملت نسخة منها إليه وبغير لغة بلاده الأصلية.
لكن اللقاء بين زيلينسكي وبيسنت حمل مفاجآت غير سارة، عبرت عن أولى الخلافات الحادة بين الجانبين بشكل مباشر، فقد علت أصوات الجانبين ليتجاوز مدى سماعها الأبواب المغلقة. وقال مسؤول أوكراني كان يقف بالقرب من زيلينسكي: "كان غاضبًا للغاية".
بعد هذا الاجتماع العاصف، أبلغ الرئيس الأوكراني وزير الخزانة الأميركي بأنه لن يوقع الاتفاق بهذ الشكل، معبراً عن مصدر قلقه الرئيسي الذي تمثل في الغياب التام للضمانات الأمنية لبلاده.
أثار هذ الرفض تساؤلات من مسؤولين أوروبيين وأوكرانيين بشأن ما إذا كان الرئيس الأوكراني ارتكب خطأً استراتيجياً بعدم توضيح أهدافه منذ البداية، وربط الاتفاقية بالضمانات الأمنية.
تلا ذلك تصعيد أميركي واشنطن مع كتابة وزير الخزانة مقالاً بصحيفة فاينانشيال تايمز، قال فيه: "بدون دعم الولايات المتحدة والشعب الأميركي، سيكون موقف أوكرانيا اليوم محفوفاً بالمخاطر في أحسن الأحوال".
اقرأ أيضاً: رئيس أوكرانيا: مهتمون بالتصديق على اتفاقية المعادن مع أميركا في أقرب وقت ممكن
لقاء المشادة العلنية بين ترامب وزيلينسكي

في وقت لاحق استأنف الجانبان المحادثات في ظل استعداد المسؤولين في كييف لتوقيع المسودة المنقحة بعد تخلي الطرف الأميركي عن سداد الـ 500 مليار دولار. بل إنهم واصلوا المضي في الصفقة حتى بعد إعلان الرئيس الأميركي أن بلاده لن تقدّم ضمانات أمنية لأوكرانيا، وقال: "سنجعل أوروبا تقوم بذلك".
في نهاية فبراير/ شباط، توجه الرئيس الأوكراني إلى واشنطن لإتمام الاتفاق، وإقامة حفل توقيع. بدأ اللقاء بين الرئيسين بشكل طيب، ولكن سرعان ما تحول إلى مشادة كلامية، مع اتهام ترامب لزيلينسكي بـ"المقامرة بالحرب العالمية الثالثة".
ووجه الطرفان انتقادات علنية لبعضهما أمام وسائل الإعلام بحضور نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس، الذي شارك في الهجوم على الرئيس الأوكراني وانتقاده، وهو ما شكل مشهداً غير مألوف في مثل هذه الظروف. ومع إلغاء حفل التوقيع في ذلك اليوم، خرج زيلينسكي من البيت الأبيض دون مراسم رسمية.
اقرأ أيضاً: القصة الكاملة للمشادة الحادة بين ترامب وزيلينسكي.. هكذا تبدد اتفاق المعادن
ضغط أميركي
بحلول أواخر مارس/ آذار، أوقفت إدارة ترامب المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا ووسّعت نطاق مطالبها. تلا ذلك اقتراح مسودة جديدة تضمنت إنشاء مجلس إشرافي من الجانبين للتحكم في عائدات النفط والغاز والمعادن، مع منح أميركا حق الاعتراض (الفيتو) على القرارات، إلى جانب اعتبار الدعم الأميركي المقدمة لأوكرانيا منذ بداية الحرب "مساهمات في الشراكة". ولم يُذكر أي شيء عن أي مساعدات عسكرية مستقبلية.
من جانبهم، وصف المسؤولون الأوكرانيون العرض بأنه أشبه بـ "الابتزاز". في المقابل رفع الرئيس الأميركي الضغط واتهم في أوائل أبريل/ نيسان نظيره الأوكراني بمحاولة التراجع عن الاتفاق، محذراً من أن الأخير سيواجه "مشاكل كبيرة".
في غضون ذلك، طلب زيلينسكي من فريقه حل المشكلة مع الجانب الأميركي. ورغم العقبات، واصل المفاوضون جهودهم. ومهّد توقيع افتراضي لمذكرة نوايا في 18 أبريل الطريق لاستئناف المحادثات من جديد.
لقاء الفاتيكان والتوصل إلى اتفاق

يوم السبت الماضي 26 أبريل/ نيسان، التقى الرئيسان مجدداً في العاصمة الإيطالية روما على هامش مراسم جنازة بابا الفاتيكان فرانسيس. وقال ترامب لـ NewsNation عن هذا اللقاء: "كنت أقول لزيلينسكي إنه لأمر جيد جداً أن نتمكن من التوصل إلى اتفاق وتوقيعه، لأن روسيا أكبر وأقوى بكثير".
اقرأ أيضاً: بعد لقائه زيلينسكي في روما.. ترامب يهدد بوتين
بحلول يوم الاثنين، أعلن المسؤولون التوصل إلى حل وسط مع تخلي الولايات المتحدة عن مطلب احتساب المساعدات السابقة فقط كجزء من المشاركة الأميركية في الاتفاقية التي تضمنت إنشاء صندوق لإعادة إعمار أوكرانيا بمساهمة من الطرفين.
وبينما كانت طائرة نائبة رئيس الوزراء ووزيرة الاقتصاد الأوكرانية، يوليا سفيريدينكو، في الطريق إلى واشنطن لتوقيع الاتفاق الإطاري يوم الأربعاء، أصر المسؤولون الأميركيون على توقيعها أيضاً على وثيقتين إضافيتين - اتفاقية الصندوق الكاملة وملحق فني - متهمين الجانب الأوكراني بمحاولة إعادة فتح المفاوضات.
وقال فريق وزير الخزانة الأميركي مهدداً الجانب الأوكراني إنه يجب على سفيريدينكو "الاستعداد لتوقيع جميع الاتفاقيات، أو العودة إلى الوطن"، وفقاً لأشخاص معنيين.
في البداية رفضت كييف القيام بذلك، مستشهدة بالإجراءات القانونية، ولا سيما تصديق البرلمان على اتفاقية الصندوق. لكنهم أشاروا إلى أنهم سيحاولون إيجاد طريقة.
توقيع الاتفاق
امتدت المفاوضات إلى مساء الأربعاء. وعقد رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شميهال اجتماعاً طارئاً لمجلس الوزراء في كييف لتفويض نائبته بالمضي قدماً دون موافقة البرلمان. وبعد ذلك بوقت قصير، تم الإعلان عن توقيع الصفقة من بيسنت وسفيريدينكو.
عقب التوقيع، وصف رئيس أوكرانيا، يوم الخميس، الاتفاقية بأنها عادلة حقاً، وقال: "في الواقع، لدينا الآن النتيجة الأولى لاجتماع الفاتيكان، مما يجعله تاريخياً بحق".
ما أبرز ما يتضمنه الاتفاق؟
يضمن الاتفاق مشاركة الولايات المتحدة في تطوير الموارد الطبيعية لكييف. لكن أهميته المحتملة أكبر بكثير.
بالنسبة لكييف، يُطمئن الاتفاق أوكرانيا وسط قلق عميق من أن ترامب قد يتخلى عنها سعياً وراء اتفاق أوسع لوقف إطلاق النار مع روسيا. وبالنسبة لترامب، يُمثل ذلك خطوة نحو وعده باسترداد بعض المليارات التي أنفقتها بلاده لدعم أوكرانيا منذ اندلاع حربها مع روسيا.
اقرأ أيضاً: بعد توقيعه.. ما أبرز المعلومات عن اتفاق المعادن بين الولايات المتحدة وأوكرانيا؟
يشمل الاتفاق أيضاً حصول الشركات الأميركية على وصول تفضيلي إلى المشروعات والموارد الأوكرانية الرئيسية، بما في ذلك استخراج الألومنيوم والليثيوم والتيتانيوم والجرافيت والنفط والغاز الطبيعي.
وصرح مسؤول كبير في وزارة الخزانة الأميركية، قائلاً: "ستكون هذه الشراكة أساسية لعملية السلام التي يقودها [ترامب]، لأنها تبعث برسالة قوية إلى روسيا مفادها أن الولايات المتحدة لها دور في العملية... وملتزمة بنجاح أوكرانيا على المدى الطويل".
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي