بقلم: ثريا بقالي، النائبة الأولى للرئيس ورئيسة مجموعة دول الاتحاد الأوروبي و كندا والأسواق الدولية في شركة Alexion Pharmaceuticals
تشهد دول مجلس التعاون الخليجي تحولًا نوعيًا في قطاع الصحة العامة، مدفوعًا برؤية طموحة واستثمارات استراتيجية تهدف إلى تحسين جودة الحياة وتعزيز استدامة الرعاية الصحية. وبينما تتوسع هذه الجهود لتشمل مختلف جوانب الصحة، تبرز الحاجة الملحة لإدراج فئة غالبًا ما ظلت على هامش السياسات الصحية، وهي فئة المصابين بالأمراض النادرة.
هؤلاء المرضى يواجهون تحديات معقدة تبدأ من التشخيص وتنتهي عند ندرة العلاجات، رغم أن الأمراض النادرة تُقدَّر بأكثر من 10 آلاف حالة مختلفة، ولا يُفهم منها سوى القليل.
ورغم أن كل مرض نادر قد يصيب نسبة ضئيلة من السكان، فإن التأثير التراكمي لهذه الحالات يطال نحو 400 مليون شخص حول العالم. والمفارقة أن معظم هذه الأمراض ذات أصل وراثي، وأن نصف المصابين هم من الأطفال، ما يُسلّط الضوء على حجم المعاناة التي تبدأ في سن مبكرة وتمتد طوال الحياة.
ومع كون العديد من هذه الأمراض تنكُّسية ولا يمكن عكسها، يصبح التشخيص المبكر والدقيق ضرورة لا ترفًا. إلا أن الواقع يبيّن أن أقل من 10% من هذه الحالات تحظى بعلاج فعّال، في حين أن نقص الوعي بين الكوادر الطبية يؤدي إلى تأخير التشخيص أو حتى الخطأ فيه لسنوات، مما يفاقم معاناة المرضى وأسرهم. وتزداد هذه التحديات حدّة في الشرق الأوسط، حيث تنتشر بعض الأمراض الوراثية بوتيرة أعلى، ما يجعل من التصدي لها أولوية إقليمية عاجلة.
وفي هذا السياق، لا بد من بناء بنية تحتية صحية قادرة على الاستجابة لهذه التحديات، تبدأ برفع مستوى الوعي داخل المجتمع الطبي. فالتشخيص الدقيق في الوقت المناسب لا يمكن تحقيقه دون وجود فرق متخصصة تجمع بين المعرفة السريرية والخبرة المتعمقة.
ومن النماذج الملهمة في هذا المجال، ما قامت به وزارة الصحة السعودية بالتعاون مع شركة أسترازينيكا، عبر تأسيس أول مركز للتميز في الأمراض النادرة. هذا المركز لا يمثل فقط نقلة نوعية على مستوى الخدمات، بل يحمل أهدافًا طموحة تتمثل في مضاعفة معدلات التشخيص، وتحسين بروتوكولات العلاج، وإنشاء سجل وطني شامل، إلى جانب تعزيز جهود البحث والتطوير. وبهذا، لا يقتصر دوره على تقديم الرعاية، بل يتجاوز ذلك إلى بناء منظومة مستدامة قادرة على قيادة التغيير محليًا وإقليميًا.
ومع التطور السريع في مجال التكنولوجيا الطبية، بات من الممكن تسريع التشخيص والوصول إلى نتائج أكثر دقة، خاصة من خلال تقنيات الفحص الجيني والذكاء الاصطناعي. وهنا يبرز دور مبادرات مثل منصة BeginNGS، التي تتيح إجراء فحوصات جينية شاملة لحديثي الولادة، وتحليل البيانات المرتبطة بها بسرعة وفعالية، مع تقديم توصيات علاجية في حال اكتشاف مرض نادر.
وفي خطوة تُحسب لدولة الإمارات، انضمت دائرة الصحة في أبوظبي مؤخرًا إلى هذه المنصة، ما يعزز فرص الكشف المبكر ويوسع نطاق الرعاية، ويسهم في بناء قاعدة بيانات وطنية دقيقة تكشف مدى انتشار الأمراض النادرة وتدعم جهود العلاج، الأمر الذي سينعكس إيجابًا على جودة حياة المرضى وذويهم.
هذا التوجه الإقليمي يتناغم مع جهود دولية آخذة في التبلور، حيث من المنتظر أن يُطرح خلال اجتماع جمعية الصحة العالمية في جنيف الشهر المقبل قرار بشأن إعداد خطة عمل عالمية للأمراض النادرة. ويُعد هذا التحرك ثمرة جهود تقودها مصر بدعم من دول خليجية مثل قطر والكويت، في رسالة واضحة بأن العالم بات يُدرك أهمية وضع هذه الأمراض ضمن أولويات الصحة العامة.
من شأن هذا القرار، في حال اعتماده، أن يعزز قدرة النظم الصحية الوطنية على تطوير استجابات مخصصة للتحديات الفريدة التي تواجه المصابين بهذه الأمراض، من حيث الوصول إلى التشخيص والعلاج والدعم المستمر.
وبينما تتراكم هذه المبادرات الإيجابية محليًا وعالميًا، تتشكل ملامح مستقبل أكثر شمولًا وعدالةً للمرضى المصابين بأمراض نادرة. فالرعاية الصحية المتقدمة لم تعد حكرًا على النظم الصحية في الدول الكبرى، بل أصبحت واقعًا ملموسًا في منطقة الخليج، مدعومًا بالوعي المتنامي والتطور التكنولوجي والتعاون الدولي. ومع ذلك، تبقى المسؤولية مشتركة، وتبقى الحاجة ملحة للاستمرار في العمل دون تباطؤ، لأن كل مريض نادر، مهما كانت حالته معقدة أو نادرة، يستحق أن يُمنح فرصة لحياة كريمة وصحية، تمامًا كما يُمنحها أي فرد في المجتمع.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي