بعد ستة أشهر من سقوط نظام بشار الأسد، تعيش سوريا على إيقاع تحولات عميقة تتشابك فيها السياسة بالأمن والاقتصاد، في مشهد لا يخلو من التعقيدات والتحديات.
يعكش هذا المشهد الانتقالي في آنٍ واحدٍ ملامح التفاؤل المشوب بالحذر، وسط محاولات إعادة بناء الدولة المنهكة وترميم العلاقات الخارجية وتجاوز إرث الحرب الطويلة، في وقت تشهد فيه البلاد -من الميدان السياسي إلى ميادين الاقتصاد- حراكًا مكثفًا نحو رسم ملامح جديدة للمستقبل، في ظل صراعات لم تُحسم بالكامل، وتحالفات لم تُكتمل بعد.
ومع تغير خريطة السلطة في سوريا وتبدل الوجوه لتحل مكانها وجوهٌ جديدة تحمل وعودًا بالإصلاح، إلا أن تلك الأخيرة تجد نفسها أمام واقع معقد، لجهة ملفات سياسية ملتهبة، وأوضاع أمنية هشة، وانفتاح خارجي حذر يضع البلاد تحت مجهر الاختبار.
أمنياً، ففي الوقت الذي تعمل فيه الحكومة الانتقالية على ضبط الأمن وتوحيد القوى المسلحة، لا تزال البلاد تواجه تهديدات متعددة من فلول النظام السابق، وهجمات إرهابية متفرقة، وضربات إسرائيلية متواصلة تزيد من تعقيد المشهد.
وفي خضم هذا الزخم السياسي والأمني، تبرز ملامح انتعاش اقتصادي حذر، مع تدفق استثمارات دولية وإعلان مشاريع تنموية كبرى، في ظل رفع العقوبات الدولية وعودة العلاقات الدبلوماسية مع دول عربية وغربية. ومع ذلك، يبقى المشهد السوري مفتوحًا على احتمالات متعددة، حيث تبدو المرحلة الانتقالية كجسر هشّ بين ماضٍ مُثقل بالصراعات ومستقبل لا يزال قيد التشكل، في انتظار اختبار الزمن وقدرة القيادات الجديدة على الصمود في وجه العواصف المقبلة.
أبرز التحولات السياسية والانتقالية
في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول، تم تعيين حكومة تصريف أعمال للمرحلة الانتقالية، لتولي مهام تسيير أمور الدولة لمدة ثلاثة أشهر، برئاسة محمد البشير.
وفي 29 يناير/ كانون الثاني، أعلنت الإدارة السورية الجديدة، تعيين أحمد الشرع رئيساً للبلاد للمرحلة الانتقالية، مع تفويضه لتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية، بعد الإعلان عن حل مجلس الشعب وإلغاء الدستور. وفي 13 مارس/ آذار تم إصدارإعلان دستوري جديد.
وفي هذا السياق، كانت CNBC عربية قد أعدت ملفاً خاصاً عن الرئيس الشرع واختيارته، شكل حفراً عميقاً في الإجابة عن سؤال: "كيف يفكر الرئيس السوري؟"
وبعد انتهاء فترة حكومة تصريف الأعمال برئاسة البشير، تم تشكيل الحكومة الانتقالية الثانية التي تولت مهام عملها في 26 مارس، واستناداً إلى مخرجات مؤتمر الحوار الوطني السوري ( الذي عٌقد على مدار يومين 24-25 فبراير/ شباط 2025)، وقد ضمّ التشكيل الوزاري الجديد 23 وزيراً.
المشهد الأمني والعسكري
منذ اليوم الأول، سعت الإدارة السورية الجديدة إلى العمل على استتباب الأمن في البلاد. وقد مهد ذلك لعودة 1.87 مليون نازح ولاجئ في الداخل والخارج -حتى مايو الماضي- وفق تقرير لمنظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة.
غير أن السلطات السورية في هذا السياق الأمني واجهت العديد من العقبات والمحطات الصعبة طيلة الأشهر الستّة الماضية.
وكان ملف "توحيد السلاح" ودمج الفصائل بالجيش الوطني من بين أهم الملفات، وقد قطعت فيه دمشق شوطاً أولياً بالاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية في 10 مارس/آذار، وهو الاتفاق الذي يقضي باندماج "قسد" ضمن مؤسسات سوريا والتأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض التقسيم.
ومن بين بنود الاتفاقى "دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز". وقد تم تشكيل لجان عمل لتنفيذ بنود الاتفاق وإزالة العقبات.
لم تخل الستة أشهر الأولى من محاولات مُزعزعة، سواء لجهة عودة تهديدات تنظيم داعش مؤخراً، وقبلها أحداث آذار الشهيرة، أو ما يعرف بـ "أحداث الساحل" التي بدأت في السادس من مارس، بهجوم مجموعات كبيرة من مؤيدي وفلول نظام الأسد بشكل متزامن مواقع عسكرية ومدنية للحكومة السورية الجديدة وطرقا في أربع محافظات سورية هي اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة.
وفي هذا السياق، كانت CNBC عربية، قد أعدت تقريراً بعنوان: "اختبار صعب لمسارات التغيير في سوريا.. هل تصمد المقاربات الحالية؟"، تناولت فيه أبرز التحديات التي تواجه الإدارة السورية:
كما ظلّت الضربات الإسرائيلية على سوريا طيلة الأشهر الماضية عنواناً لتوترات أمنية واسعة بالبلاد، لا سيما بعد أن سيطرت إسرائيل على المنطقة العازلة وإلغاء اتفاقية فض الاشتباك من جانبها. وتبرر إسرائيل عملياتها في سوريا بأن "وجود هذه الأسلحة (السورية) في جنوب سوريا يشكل تهديدا لإسرائيل".
عودة سوريا للعالم!
وعلى صعيد العلاقات الخارجية، فبعد سقوط نظام بشار الأسد، شهدت سوريا تحولًا جذريًا في علاقاتها الدولية، حيث بدأت مرحلة جديدة من الانفتاح الدبلوماسي والاقتصادي، مدفوعة بتغيرات إقليمية ودولية.
وقد أدى انهيار النظام السابق إلى تسريع وتيرة إعادة العلاقات الدبلوماسية مع عدد من الدول، ومع تسارع مجموعة من الدول لإعادة فتح سفاراتها في دمشق، وإعلان دعمها للحكومة الانتقالية بقيادة الشرع.
وقد عبرت الزيارات الخارجية للرئيس الشرع عن عودة الحضور السوري إقليمياً ودولياً واستعادة الزخم. بدءاً من زيارته إلى السعودية في الثاني والثالث من فبراير ولقائه مع ولي العهد محمد بن سلمان (في أول زيارة رسمية إلى الخارج منذ سقوط الأسد) تبعها بزيارة ثانية إلى تركيا في 4 فبراير (ثم زار تركيا مرة ثانية في 11 و12 أبريل، ومرة ثالثة في 24 و25 مايو). كما زار مصر في الرابع من مارس (للمشاركة في القمة العربية الطارئة).
شملت زيارات الشرع الخارجية أيضاً الأردن (في 26 فبراير) والإمارات (13 أبريل) وقطر (15 أبريل) وفرنسا (7 مايو) والبحرين (10 مايو) ثم السعودية مرة أخرى في 14 مايو (وهي الزيارة التي التقى فيها بولي العهد السعودي والرئيس الأميركي دونالد ترامب). وكانت آخر زيارته إلى الكويت في الأول من يونيو/ حزيران.
كما استقبلت سوريا عديداً من المسؤولين من مختلف المستويات، من المنطقة والعالم، في دلالة على استعادة زخم العلاقات الخارجية بعد سقوط النظام السابق.
رفع العقوبات
وتبعاً لذلك، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 13 مايو/ آيار 2025، خلال كلمته بمنتدى الاستثمار السعودي الأميركي عن أنه سيرفع جميع العقوبات المفروضة على سوريا -بطلب من ولي العهد السعودي- قائلاً إنهم "تحملوا ما يكفي من الكوارث والحروب والقتل" وأن إدارته على استعداد لتطبيع العلاقات مع الحكومة السورية الجديدة.
كما أعلن الإتحاد الأوروبي رفع كامل العقوبات عن سوريا في 20 أيار/مايو 2025، وذلك بعدما كانت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس، قد أعلنت في في 24 فبراير 2025 أن الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات المفروضة على سوريا في بعض القطاعات الرئيسية، مثل الطاقة والنقل والخدمات المصرفية.
الاقتصاد "يتنفس الصعداء"
ومع التقدم الحادث على الصعيدين السياسي والأمني، وكذلك على مسار ترتيب العلاقات الخارجية، بدأ الاقتصاد السوري "يتنفس الصعداء"، رغم التحديات واسعة النطاق التي تلف مصيره، لا سيما وأن البلد بحاجة إلى مبالغ تقدر من 400 مليار دولار إلى تريليون دولار في تقديرات مختلفة، ككلفة لإعادة الإعمار.
وشهدت سوريا خلال الفترة القصيرة الماضية تدفقات استثمارية جديدة، في خطوة تعكس بداية تحركات اقتصادية بعد سنوات من الحرب. وبرزت موانئ البلاد كبوابة رئيسية لهذه التحولات، مع توقيع عدة اتفاقيات ومشاريع استثمارية ضخمة.
وأعلنت موانئ دبي العالمية عن توقيع مذكرة تفاهم بقيمة 800 مليون دولار لتطوير ميناء طرطوس، بينما كشفت شركة CMA CGM الفرنسية عن استثمار 262 مليون دولار لتحديث ميناء اللاذقية.
وفي قطاع المناطق الحرة، حصلت شركة Fidi Contracting الصينية على حق استثمار مساحات تتجاوز مليون متر مربع في حمص وريف دمشق لإنشاء مناطق صناعية وتجارية ضخمة، تخدم السوقين المحلية والإقليمية.
كما تتواصل دراسة مشاريع أخرى، من بينها تعاون استراتيجي محتمل مع الولايات المتحدة في قطاع الطاقة. وأظهرت بيانات رسمية تقدم أكثر من 500 شركة بطلبات لفتح فروع لها في سوريا منذ بداية العام.
وفي 29 مايو، وقعت سوريا اتفاقاً بقيمة 7 مليارات دولار مع ائتلاف يضم شركات من قطر والولايات المتحدة وتركيا لإعادة تأهيل شبكة الكهرباء المدمرة.
تأتي هذه التطورات في ظل قرارات برفع العقوبات عن سوريا، وهو ما أعاد البلاد إلى دائرة اهتمام المستثمرين العالميين. ولم يتم الإعلان حتى الآن عن الجدول الزمني لتنفيذ هذه المشاريع، وسط توقعات بأن تشكل خطوة نحو إعادة تأهيل الاقتصاد السوري.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي