عندما اصطحبت جيريمي ديدييه ابنها إلى طبيب نفسي لتقييم محتمل لحالة فرط الحركة وتشتّت الانتباه (ADHD)، لفت انتباهها مقال في غرفة الانتظار يتحدث عن النساء المصابات بهذه الحالة. وبينما كانت تقرأ، راودها شعور قوي: «إنهم يصفونني».
قالت ديدييه لوكالة أسوشيتيد برس: «كنت أُقدِم على الكثير من المجازفات، وتصرفاتي في الطفولة كانت في غاية الاندفاع». وكما ورد في المجلة، فقد كانت متفوقة في دراستها، لكنها كانت تُعاقَب كثيراً بسبب كثرة الحديث. وعندما أصبحت راشدة، جمعت عدداً كبيراً من مخالفات السرعة. حينها التفتت إلى زوجها وقالت: «أعتقد أنني قد أكون مصابة بفرط الحركة وتشتّت الانتباه».
ديدييه تشغل الآن منصب رئيسة مجلس إدارة منظمة «الأطفال والبالغون المصابون باضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه»، وهي منظمة غير ربحية تُعنى بالدعم والمناصرة. وما اكتشفته يعكس تجربة كثير من البالغين الذين يبدأون في التساؤل عمّا إذا كانوا هم أيضاً مصابين بالاضطراب نفسه بعد تشخيص أحد أطفالهم.
اضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه هو حالة عصبية نمائية تُعرف بصعوبة التركيز أو فرط النشاط أو كليهما. ويمكن أن تؤدي الأعراض الشائعة، مثل صعوبة التركيز أو الجلوس لفترة طويلة، إلى تحديات كبيرة في بيئة العمل.
قال أندرو سيلفستر، الطبيب النفسي في مركز «يو سي هيلث» في لونغماونت، كولورادو، إن الأشخاص المصابين باضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه غالباً ما يُستبعدون من الترقية في العمل. وأوضح أن صعوبات التركيز قد تؤدي إلى شرود الذهن أثناء الاجتماعات، ما يجعلهم يفوّتون تفاصيل مهمة في النقاش. كما يمكن أن يؤثر الاضطراب على مهارات التنظيم والتخطيط والقدرة على تذكّر التفاصيل.
اقرأ أيضاً: إريك ليفكوفسكي.. ملياردير أميركي يجني ثروة طائلة من قطاع أصر على عدم دخوله أبداً
ومع ذلك، يرى بعض البالغين أن الإصابة باضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه قد تشكّل مصدر قوة في الشخصية، وأن أسلوب التفكير المرتبط به قد يعود بالنفع على أصحاب العمل.
ورغم أن كُتب التشخيص تُصنّفه كاضطراب، إلا أن البعض يعتبره «قدرة خارقة» أيضاً.
قالت ديدييه: «أدمغتنا تعمل بطريقة مختلفة، وهذا يجعلنا أكثر ميلاً للتفكير خارج الصندوق وابتكار أفكار غير تقليدية —وأحياناً، يكون ذلك لأننا اضطررنا لفعل ذلك كي نتمكن من التكيّف والبقاء».
فيما يلي بعض الطرق للتعامل مع اضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه في بيئة العمل وتوجيهه بشكل إيجابي:
لا يؤدي تشخيص اضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه (ADHD) دائماً إلى حلول سريعة أو بسيطة. فبالرغم من أنّ الأطباء غالباً ما يوصون بالعلاج الدوائي والجلسات النفسية، إلا أنّ هذه الخيارات ليست مناسبة أو فعّالة للجميع، ولا تُزيل بالضرورة جميع الأعراض.
واجهت ديدييه صعوبات جمّة في حياتها اليومية، من منزل فوضوي إلى كثرة الصراخ، خاصة بعد تشخيصها هي وأربعة من أطفالها الخمسة باضطراب ADHD. جرّبت أدوية وأنظمة غذائية وجداول مكافآت، لكنها اكتشفت أن العامل الأهم في تحسين حياتها كان وجود مجتمع من الآباء الذين يواجهون التحديات نفسها.
قالت: «لا شيء يعادل التحدث إلى أشخاص يمرّون بما تمرّ به، فهذا يساعدك على الشعور بأنك لست وحدك».
ومع مرور الوقت، أصبحت ديدييه أخصائية اجتماعية، وبدأت تدير مجموعات دعم مخصصة للبالغين المصابين باضطراب ADHD، حيث تعلّمهم مهارات عملية يمكنهم استخدامها في بيئة العمل.
وتُنشئ بعض الشركات مجموعات دعم داخلية للموظفين تُعنى بالتنوّع العصبي، لتوفير بيئة من الرفقة والمساندة للبالغين المصابين بـ ADHD أو التوحّد أو عُسر القراءة أو غيرها من الحالات ذات الصلة.
غالباً ما يواجه الأشخاص المصابون باضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه (ADHD) صعوبات في ما يُعرف بـ«الوظائف التنفيذية» —وهي مجموعة من المهارات الذهنية تصفها ديدييه بأنها «نظام تحديد المواقع العقلي في الدماغ» الذي يساعدنا على اجتياز تفاصيل اليوم.
تشمل الوظائف التنفيذية: التخطيط المسبق، إدارة الوقت، التفكير المرن، والذاكرة العاملة —وهي ما تمكّننا من تتبّع ما نقوم به من مهام.
شاهد أيضاً: المديرة العامة لمنظمة التعاون الرقمي لـ CNBC عربية: الدراسات تشير إلى تغير أو اختفاء 39% من الوظائف الحالية
ولتفادي التشتّت أو الانحراف عن المسار، ينصح الخبراء بتقسيم المهام الكبيرة إلى خطوات صغيرة، وتدوين قوائم مفصلة للمهام، وأخذ فواصل منتظمة للراحة.
على سبيل المثال، الشيف الشخصي بيل كولينز (66 عاماً)، الذي جرى تشخيصه بـ ADHD قبل عامين فقط، يعتمد على قوائم مرتّبة بدقة عندما يُعدّ وجبة لعميل. ينظّم المهام حسب أماكن العمل في المطبخ —كطاولة التحضير، والموقد، والفرن—ويضع تحت كل فئة مجموعة من المهام مثل: «تقطيع الجزر، غلي الماء للمعكرونة». ثم يُرقم المهام ليعرف تماماً ماذا يفعل، وأين ومتى.
قال كولينز: «منذ بداياتي، وأنا أتغلّب على أعراض لم أكن أعلم أنها ناتجة عن ADHD عبر القوائم. وإذا كانت هناك مهمة لا أرغب في القيام بها، أضعها في أعلى القائمة كي أنتهي منها أولاً».
ومن بين الاستراتيجيات الأخرى الفعالة ما يُعرف بـ«الازدواج الجسدي»، حيث يجتمع شخصان— سواء عبر «زوم» أو حضورياً— للعمل معاً على مشاريعهم. قد ينجز
قالت ديدييه: «أنت فقط تجلس خلال ذلك الوقت المخصص، وتنجز المهام واحدة تلو الأخرى».
وتسعى بعض الشركات إلى دعم الموظفين المصابين باضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه من خلال أدوات مخصصة. فمثلاً، توفّر شركة التأمين ليبرتي موتشوال أداة تعمل بالذكاء الاصطناعي تساعد على تفكيك المشاريع الكبيرة إلى مهام قابلة للتنفيذ، وتُرسل تذكيرات بالمواعيد النهائية، ما يُسهم في تعزيز التركيز والتنظيم لدى الموظفين، وفقاً لما قالته فيرليندا دي مارينو، رئيسة قسم المزايا في الشركة.
الاجتماعات قد تُشكّل عبئاً كبيراً على المصابين بـ ADHD، إذ يجد البعض صعوبة في الجلوس لفترات طويلة أو متابعة المحادثات المطوّلة أو تذكّر التفاصيل التي تُذكر شفهياً. وقد يتشتّت انتباههم بسهولة أو يفقدون تركيزهم عند مناقشة مواضيع لا تهمّهم بشكل مباشر.
وللتعامل مع ذلك، يوصي الخبراء باستخدام تقنيات مثل:
تدوين الملاحظات الفورية لتثبيت المعلومات.
طلب جداول أعمال الاجتماعات مسبقاً.
تلخيص النقاط الرئيسية في نهاية الاجتماع.
طلب إرسال ملخص كتابي بعد الاجتماع لتجنّب ضياع التفاصيل.
يمكن أن تكون الاجتماعات مرهقة للأشخاص المصابين باضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه، خصوصاً إذا بدأ الذهن في الشرود أو راودهم شعور مفاجئ بالحاجة إلى الوقوف أو الحركة. كما أن التحكم في الاندفاع قد يشكّل تحدياً، وقد يجد البعض صعوبة في انتظار دورهم للحديث.
نيكول كلارك، المديرة التنفيذية لمعهد "Adult and Pediatric Institute" للصحة النفسية في ستيوارت، فلوريدا، توصي بطلب جدول أعمال الاجتماع مسبقاً وكتابة نقاط الحديث مسبقاً. كما تنصح بتدوين الأسئلة أثناء الاجتماع بدلاً من مقاطعته لطرحها فوراً.
وأضافت أن بعض أرباب العمل يستخدمون خدمة تحويل الصوت إلى نص معروض على الشاشة أثناء الاجتماعات، ما يساعد المصابين بصعوبات الانتباه على متابعة الحديث بشكل أفضل.
أما الطبيب النفسي أندرو سيلفستر، فيوصي بممارسة ما يُعرف بـ«الإنصات النشط»، مثل تكرار ما قيل في رأسك بصمت، أو حتى أخذ استراحة قصيرة من الاجتماع لإعادة التركيز. وقال:
«قل لهم ببساطة: ’أحتاج لخمس دقائق، سأعود فوراً‘. انهض وغادر، وافعل ما يلزم لتستعيد تركيزك».
أما مارييل باراليتيسي-موراليس، كبيرة المسؤولين الطبيين في المعهد ذاته والتي تعاني من اضطراب ADHD، فتجلس عادةً قريبة من المتحدث خلال الاجتماعات لتقليل مصادر التشتّت. وقالت:
«الاحتفاظ بشيء في يدي يساعدني كثيراً» —وأشارت إلى أنها أحياناً تستخدم لعبة «فيجيت سبينر» لتحفيز التركيز.
وأضافت: «إذا كان من الضروري الحديث، أجد أنه من الأسهل أن أكون أول من يتحدث لكسر الحاجز ومنع نفسي من التردد أو إعادة التفكير فيما كنت أنوي قوله».
اقرأ أيضاً: للتخلص من إرباك اختيار ملابس العمل.. اتبع هذه النصائح لتسهيل المهمة
يتيح قانون الأميركيين ذوي الإعاقة (ADA) للمصابين باضطراب ADHD طلب تعديلات أو تسهيلات في بيئة العمل.
ومن أبرز التوصيات:
سماعات عازلة للضوضاء للحد من التشتيت.
الاستئذان لفواصل قصيرة منتظمة — مثلاً، كل 20 دقيقة.
ضبط مؤقّت على فترة راحة من 5 إلى 10 دقائق تتخلّلها أنشطة خفيفة مثل إعداد القهوة أو التجوّل أو اللعب مع حيوان أليف، ثم العودة إلى دورة تركيز منتجة لمدة 15 إلى 20 دقيقة، كما ينصح سيلفستر.
كذلك، يمكن للموظفين طلب:
مرونة في ساعات العمل
العمل من المنزل عند الحاجة، ما يُتيح وقتاً للعلاج أو الرعاية الذاتية.
تقول أنتوانيت داميكو (23 عاماً)، وهي منسّقة فعاليات في شركة توظيف تنفيذي في سان فرانسيسكو، إنها تعتمد على التأمل اليومي، وكتابة أهدافها في دفتر خاص، وتجنّب المحتوى القصير السريع (مثل فيديوهات تيك توك) لتحسين تركيزها.
تقول ديدييه إن الإصابة باضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه (ADHD) قد تكون ميزة حقيقية في بيئة العمل، مشيرة إلى أن العديد من الرؤساء التنفيذيين ورواد الأعمال هم من ذوي التنوع العصبي.
وأضافت: «نحن نُدخل مواهب فريدة ومتنوعة إلى أماكن العمل — مثل التركيز العميق، الطاقة العالية، القدرة على التحمّل، والمهارة في إنجاز مهام متعددة».
«ثمة شيء مميز في الأشخاص المصابين باضطراب ADHD يمنحهم قدرة أكبر على الإبداع والابتكار».
وترى أيضًا أنتوانيت داميكو أن اضطرابها يمنحها مزايا خاصة. فعندما يثير موضوع ما اهتمامها، يمكنها أن تركّز عليه بشكل مكثّف للغاية، فتقرأ عنه بشغف وتتحدث فيه باستمرار — وهي سمة يذكرها كثير من المصابين بالاضطراب.
قالت داميكو: «يمكن أن يولّد هذا الاضطراب بداخلك شغفاً حقيقياً، يميّزك عن الآخرين».
«ويمنحني أيضاً نوعاً من الإصرار — فعندما أُصمّم على إنجاز شيء ما، أشعر بطاقة قوية تدفعني لتحقيقه».
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي