يجد رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي يتولى هذا المنصب منذ عام 2010، صعوبة في التخلص من حالة اللوم على الحكومة بشأن الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
وتعتبر تكاليف خدمة الديون المجرية، التي تصل إلى حوالي 5% من الناتج المحلي الإجمالي، الأعلى بين دول الاتحاد الأوروبي. كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية، كالطعام، بشكل ملحوظ مقارنةً بالسنوات الماضي، في حين زادت أسعار المساكن والإيجارات بشكل حاد، مما أثر بشكل غير متناسب على المواطنين الأكثر فقراً وسكان الأرياف والأقل تعليماً، والذين يُشكّلون قاعدة ناخبي أوربان.
ويبدو أن "نظام التعاون الوطني" الذي يتبناه حزب أوربان، والذي يُفترض أن تتوافق المصالح السياسية والعامة والخاصة في ظله، يعاني من نقص التمويل ولم يعد قادراً على تحقيق الفوائد الاقتصادية التي ساعدت في جعل أوربان أطول زعماء الاتحاد الأوروبي خدمة في منصبه، بحسب تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
هذا العام، قال المدير التنفيذي لمنظمة الشفافية الدولية، جوزيف بيتر مارتن: "لقد وقعت المجر في حلقة مفرغة منذ الجائحة. لقد قوض الفساد الناتج الاقتصادي للبلاد".
في غضون ذلك، أدّى اعتماد المجر على الطاقة الروسية وقرب أوربان من فلاديمير بوتين إلى زيادة توتر العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، الذي حجب مليارات اليوروهات من التمويل بسبب فشل بودابست في تنفيذ الإصلاحات.
يأتي ذلك في الوقت الذي لم تُترجم فيه مبادرات أوربان تجاه الصين للاستثمار في المجر بعد إلى مصانع ضخمة عاملة بكامل طاقتها، وهو ما التزمت به بكين، في حين أن دعمه المبكر والراسخ للرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يُسفر عن معاملة تفضيلية من الولايات المتحدة.
اقرأ أيضاً: ترسية مشروع للكهرباء في المجر على تحالف تقوده إحدى شركات " السويدي" المصرية
حلول قصيرة المدى والتركيز على السلطة
وفي ظل غياب التمويل والاستثمارات وتأثر الاقتصاد وارتفاع الأسعار، أصبح الرجل الذي حصلت على الإشادات لإخراج المجر من تداعيات الأزمة المالية العالمية، يجد نفسه في الوقت الحالي يرفع الأجور لتحفيز الاستهلاك، ويستخدم ضوابط الأسعار لكبح التضخم.
من جانبه، قال المحلل الرئيسي في الفرع المجري لبنك KBC البلجيكي، دافيد نيميث، لصحيفة فايننشال تايمز: "لا يوجد مفهوم حقيقي في الوقت الحالي، إنهم فقط يسدّون الثغرات عند ظهورها. يرفعون الأجور عندما يُجبرون على ذلك، ويؤجلون الاستثمارات لتوفير التكاليف... هذا لا يعدو كونه إدارة أزمة. لا توجد أفكار جديدة".
كما علق أستاذ المالية ومحافظ البنك المركزي السابق والمستشار السابق لرئيس الوزراء، جيورجي سوراني قائلاً: "لا يعتمد مخطط أوربان المستهدف إلا على متغيرين. فمن جهة، يُعظم الأصوات ويتمسك بالسلطة. ومن جهة أخرى، يُعظم الثروة الشخصية لدائرته المقربة".
وأضاف سوراني، للصحيفة البريطانية، أن طول مدة بقاء أوربان في السلطة كرّس عقلية التفكير قصير المدى، مشيرًا إلى أن المواطنين العاديين في المجر يدفعون الثمن بشكل متزايد. وقال: "قطاعات مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والسياسات الاجتماعية، والبحث والتطوير تعاني من نقص كبير في التمويل، لأنها لا تخدم الأهداف السياسية المباشرة وقصيرة المدى".
ويواجه أوربان انتخابات وطنية في شهر أبريل/ نيسان المقبل ضد خصم يتقدم عليه حالياً بنحو تسع نقاط في استطلاعات الرأي.
ورغم تركيز رئيس الوزراء على السلطة على مر السنين، فقد تكون النهاية قريبة لأوربان، بحسب ما قاله خبير العلوم السياسية بيتر تولجيسي، العقل المدبر للانتقال من الشيوعية عام 1989 والنائب السابق عن حزب فيدس الحاكم. وكتب تولجيسي الشهر الماضي: "تشير تجربتي في المناصب العامة إلى ضرورة حساب احتمال سقوطه بجدية".
اقرأ أيضاً: المجر تكشف عن بديل لمساعدة أوروبا إذا توقف الغاز الروسي عبر أوكرانيا
بداية الرحلة ومواجهة الأزمة
ووصل فيكتور أوربان إلى السلطة في عام 2010 في ظل معاناة المجر من أزمة مالية، وخضوعها لشروط صارمة ضمن خطة إنقاذ بقيمة 25 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والاتحاد الأوروبي.
وكان بناء اقتصاد جديد مرن سبيل المجر لعبور أزمتها، ومفتاح أوربان للسيطرة الكاملة على التدفقات المالية في البلاد.
في البداية، كوزير للاقتصاد، ساعد جيورجي ماتولكسي، أوربان على وضع مزيج سياسات غير تقليدية تجنب التقشف وبدلاً من ذلك فرض ضرائب على قطاعات كبيرة، معظمها مملوكة لأجانب، مثل البنوك. كما أممت الحكومة صناديق التقاعد الخاصة، واستعادت السيطرة على مليارات الدولارات من الأصول والمدفوعات الشهرية.
ودعم أوربان ماتولكسي - الذي وصفه بيده اليمنى - بثبات خلال السنوات الأولى الصعبة من الحكم، وقال رئيس الوزراء ذات مرة خلال مؤتمر صحفي: "لا أحد يستطيع أن يدفع لي ما يكفي لأتخلى عن يدي اليمنى (ماتولكسي)".
وقلّصت الحكومة المجرية في هذا الوقت التهرب الضريبي بشكل كبير وزادت من المشاركة في سوق العمل. وفي عام 2013، وبالتزامن مع تولي ماتولكسي رئاسة البنك المركزي، حققت المجر فائضاً أولياً في الميزانية، وعادت إلى أسواق السندات العالمية، وسددت قرض صندوق النقد الدولي. وتباهى ماتولكسي وأوربان بعودة "السيادة الاقتصادية".
وأطلق ماتولكسي برنامجاً للإقراض من أجل النمو، بينما فرض أوربان قيوداً على أسعار خدمات المرافق المنزلية، وهو إجراء شائع ساهم أيضاً في احتواء التضخم.
وبعد إعادة انتخابهما في أبريل/ نيسان 2014، وضع الثنائي خطةً في وقت لاحق من نفس العام لتحويل أكثر من 10 مليارات يورو من قروض العملات الأجنبية التي حصل عليها مواطنون مجريون عاديون في السنوات السابقة إلى العملة المحلية الفورنت.
ومُنحت معظم القروض في الأصل بالفرنك السويسري نظراً لانخفاض معدلات الفائدة بشكل كبير في سويسرا. وعندما تخلى البنك الوطني السويسري عن ربطه الفعلي باليورو في عام 2015، مما أدى إلى ارتفاع قيمة الفرنك، ساعد الإجراء الاستباقي لماتولكسي وأوربان المجر على تجنب موجة من حالات التخلف عن السداد وأزمة مالية أخرى.
أصبح الثنائي أكثر جرأة، وواصلا تطبيق التحفيز الاقتصادي رغم الظروف الاقتصادية المستقرة، مما دفع الخبراء للتحذير من أن مثل هذه السياسات المالية والنقدية الموالية للدورة الاقتصادية قد تؤدي إلى سخونة مفرطة في الاقتصاد وتغذي التضخم.
اقرأ أيضاً: وسط اعتراض المجر.. الاتحاد الأوروبي يقر استخدام أرباح أصول روسيا المجمدة لدعم أوكرانيا
خلق نخبة أعمال جديدة
لكن هذه الاستراتيجية خدمت أكثر من مجرد النمو الاقتصادي. بفضل مليارات الدولارات من التمويل الرخيص والمساعدات الحكومية، تمكن أوربان من تعزيز نظامه. وكان الهدف، وفقاً لمن يعرفون تفكير رئيس الوزراء، هو خلق نخبة أعمال محلية جديدة تابعة لأوربان.
وفي هذه الأثناء، همّش أوربان رجلاً كان بمثابة مستشاره المالي البارز خلال أول 25 عاماً من حياته السياسية. اضطر لاجوس سيميسكا إلى بيع أصوله في قطاعي البناء والإعلام والابتعاد عن السياسة. فردّ سيميسكا بوصف أوربان بـ"الحثالة" وصرح لوسائل الإعلام المحلية: "أردنا تفكيك ديكتاتورية معاً... لكن بناء ديكتاتورية جديدة لم يكن جزءاً من الصفقة اللعينة".
وحلّ محله سيميسكا أباطرة جدد. فلورينك ميزاروس، فنيّ الأنابيب الذي نشأ مع أوربان في قرية فيلتشوت بوسط المجر، تحوّل من ثريّ إلى أغنى رجل في المجر في غضون خمس سنوات بعد فوزه بالعديد من مناقصات المشتريات العامة. غالباً ما تُنجز الشركات التي يسيطر عليها ميزاروس الكثير من الأعمال لصالح المستثمرين الأجانب أيضاً، مثل مشروع سكة حديد بقيمة ملياري يورو بتمويل من الصين.
واستفادت عائلة أوربان المباشرة أيضاً. يمتلك والده الثمانيني محجراً للحجارة يُورّد مواد البناء لمشروعات بناء الطرق والسكك الحديدية. ويُعدّ صهر أوربان، إستفان تيبوركز، في الوقت الحالي واحداً من أكبر 10 أباطرة في المجر، بأصول في قطاعات النقل والبنوك والعقارات والسياحة، والذي بدأ صعوده بتزويد الحكومات المحلية بإضاءة الشوارع.
ويقول تيبوركز لصحيفة فاينانشيال تايمز، في أول مقابلة إعلامية دولية له: "أنت تختار زوجة، ولا تختار حماك". "عندما يصبح حماك لاحقاً رئيساً للوزراء، فعندئذٍ... هذا هو ما اتعامل معه".
وسعى تيبوركز إلى تمييز نفسه عن ماتولكسي. ويقول: "شركتنا لا تُنتج قيمة من الأموال العامة... نحن نستخدم مصادرنا الخاصة وقروضنا المصرفية". ويضيف: "على من يعمل بالأموال العامة... أن يخدم الجمهور، وأن يتوخى أقصى درجات الحذر".
منذ عام 2015، دفع التدقيق المتزايد تيبوركز إلى الابتعاد عن مناقصات المشتريات العامة، لكن تكتله التجاري "BDPST" لا يزال يستفيد من بعض المنح الحكومية وقروض بمئات الملايين من اليورو من بنوك مملوكة للدولة أو مرتبطة بها.
اقرأ أيضاً: بعد مرور 10 سنوات على بداية الطريق.. كيف عادت اليونان من حافة الهاوية الاقتصادية؟
إنشاء مؤسسات وشبكة معقدة من الشركات
في غضون ذلك، أشرف ماتولكسي، في البنك المركزي، على إنشاء ست مؤسسات برأس مال يزيد عن 800 مليون يورو، بهدف تعزيز أهداف الخدمة العامة. أنشأت هذه المؤسسات شبكة معقدة من الشركات، تستثمر في الفن والعقارات التي تزداد تكلفتها.
وشرع حزب فيدسز بزعامة أوربان في إزالة هذه المؤسسات من الرقابة العامة، ولكن وفقاً لمراجعي حسابات الدولة، فقد نفذت باستثمارات ضعيفة، وهي على وشك الإفلاس.
وأبلغ مديرو المؤسسات المراجعين أنهم "لا يرون سبيلاً لتسوية وضع [المؤسسات] بشكل آمن"، وقدّروا أنها ستحتاج إلى حوالي مليار يورو كرأس مال إضافي.
ومع ذلك، أدت هذه المخططات إلى إثراء شريحة مختارة من رواد الأعمال الشباب ذوي الصلات الوثيقة بعائلة ماتولكسي، وفقاً لمراجعي الحسابات وتقارير وسائل الإعلام المحلية. وتباهى هؤلاء الشباب بثرواتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، فاشتروا وحدات سكنية فاخرة في أماكن مثل مدن نيويورك ودبي، واقتنوا سيارات رياضية فاخرة.
كانت تجاوزاتهم موضوع فيلم أنتجه موقع "تيلكس" الإخباري بعنوان "المناورة عالية المخاطر"، وفيلم "السلالة"، الذي أنتجه مركز التحقيقات الاستقصائية الإلكتروني "دايركت 36"، والذي ركز على صعود تيبوركز تحديداً، وشهد الفيلمان مشاهدات مرتفعة بالملايين.
سياسات أكثر تكلفة وفوات فرصة الإصلاح
ومع ارتفاع معدلات الفائدة عالمياً، وتسبب حرب روسيا في أوكرانيا في ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم، أصبحت سياسات أوربان الاقتصادية التوسعية أكثر تكلفة بكثير.
ويقول نيميث من بنك KBC: "لقد أضاعوا فرصةً مهمةً لإصلاح الميزانية عندما كانت معدلات الفائدة منخفضة وتكاليف خدمة الدين لا تتجاوز 2% من الناتج المحلي الإجمالي. لم يتمكنوا من التوقف عن التدخل الحكومي".
وفاز أوربان في انتخابات عام 2022، بفضل حزمة إنفاق مالي ضخمة، شملت مليارات الدولارات من التخفيضات الضريبية التي وصفها نيميث بأنها "خطأ فادح".
ودفعت هذه الحوافز التضخم في المجر إلى أعلى مستوياته بين دول الاتحاد الأوروبي، والذي لم تراجع إلى خانة الآحاد سوى في العام الماضي فقط، وفقاً لمكتب الإحصاء الأوروبي "يوروستات". وبين عامي 2015 و2024، بلغ التضخم الكلي 66.6% - وهو أيضاً أعلى معدل بين دول التكتل. وبلغ تضخم أسعار الغذاء ذروته عند 45% سنوياً.
وفي ظل تلك الأوضاع الاقتصادية تحولت الشركات إلى الإحجام عن الاستثمار. يقول الرئيس التنفيذي لبنك OTP، أكبر مُقرض في المجر، بيتر كساني: "نلاحظ ذلك في عمليات الإقراض لدينا".
وأضاف كساني: "يحتاج إقراض الشركات إلى اقتصاد وبيئة تنظيمية يمكن التنبؤ بهما. لن تبدأ الشركات استثماراتها على أفق زمني يمتد لعشرة أو عشرين أو ثلاثين عاماً في ظل وجود سقوف للأسعار وضرائب قطاعية عشوائية وغيرها".
اقرأ أيضاً: ما الآفاق الاقتصادية على المدى القريب للاقتصاد الجزائري؟
إصلاح الاقتصاد أولوية للفائز في الانتخابات
سيكون إصلاح الاقتصاد أولوية قصوى لأيّ فائز في انتخابات العام المقبل. ويؤكد جيورجي سوراني، محافظ البنك المركزي السابق، أن ذلك ممكن. ويضيف: "لا يزال الميزان الخارجي إيجابياً، لذا لا تحتاج الحكومة الجديدة إلى التقشف للخروج من هذا الفخ".
وتابع سوراني قائلاً: "يمكن إعادة توزيع ما بين ستة وسبعة مليارات يورو [من الإنفاق الحكومي] دون أي خسارة مُزعجة في مستويات المعيشة لشرائح كبيرة من السكان".
وأنفقت المجر في السنوات الأخيرة أكثر من 10% من ناتجها المحلي الإجمالي، أي ضعف متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على برامج التنمية الاقتصادية المحلية، بما في ذلك المنح والإعانات التي "تعج بالفساد والمبالغة في الأسعار، وتُقوّض بشدة القدرة التنافسية للقطاع الخاص والاقتصاد ككل"، بحسب ما قاله سوراني.
وأضاف محافظ البنك المركزي المجري السابق: "إن خفض ذلك تدريجياً، بنسبة مئوية واحدة سنوياً، يوفر حوالي ملياري يورو، أو حوالي 1% من الناتج المحلي الإجمالي، في كل مرة". ويمكن الحصول على ما بين ثلاثة مليارات وأربعة مليارات يورو إضافية سنوياً من أموال الاتحاد الأوروبي التي تم حجبها. لكن تحقيق عملية إعادة التوزيع يتطلب من أوربان التخلي عن الركائز الرئيسية التي بُنيت عليها حركته السياسية.
خطط منافس أوربان
المنافس الرئيسي لأوربان في الوقت الحالي هو بيتر ماجيار، زعيم حزب تيسا. وماجيار عضو شاب في البرلمان الأوروبي، وهو أيضاً الزوج السابق لوزيرة العدل السابقة في عهد أوربان، ويعد بـ"صفقة جديدة" "لإعادة تشغيل" المجر. تشمل خططه خفض التكاليف من خلال جهود مكافحة الفساد و"استعادة الأصول" ممن جمعوها بشكل غير قانوني في عهد أوربان.
كما تعهد ماجيار بتطبيع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وخفض الدعم الحكومي لشركات مختارة بعناية، وزيادة الإنفاق على قطاعات مثل العمل والرعاية الصحية والتعليم.
لكن الخبراء يحذرون من أن نظام أوربان أصبح جزءاً كبيراً من الاقتصاد لدرجة أنه لا يمكن تفكيكه بالكامل دون تأثير سلبي كبير على النمو والنظام المالي. فالشركات الكبيرة التي تُحرم فجأة من عقودها الحكومية، أو تُعرّض نفسها لمنافسة حقيقية، أو تُجبر على مواجهة عواقب أنشطتها غير القانونية السابقة، قد تُفلس بسرعة.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي