تكاليف الإسكان تشعل أزمة ديموغرافية في الولايات المتحدة.. وهذا موقف ترامب

نشر
آخر تحديث

استمع للمقال
Play

تشهد الولايات المتحدة تراجعاً مستمراً في معدلات المواليد منذ أكثر من عقد، مع تأثيرات واضحة على التركيبة السكانية والاقتصادية للبلاد. وفي قلب هذه الأزمة، تقف تكلفة الإسكان المرتفعة كأحد أبرز العوامل التي تعيق رغبة الشباب في تأسيس أسر أكبر، حيث تُثقل الإيجارات والرهون العقارية كاهل الميزانيات العائلية وتُقلص من قدرة الأسر على التخطيط للمستقبل.

يتداخل هذا الواقع مع تحديات أخرى مثل ارتفاع تكاليف رعاية الأطفال، وغياب الدعم الكافي لإجازات الأبوة والأمومة، ليشكل عبئاً مالياً ثقيلاً يدفع كثيرين إلى تأجيل الإنجاب أو تقليل عدد الأطفال. وفي ظل ندرة المساكن الميسورة والصالحة للعائلات، تتفاقم المشكلة، ما يعكس أزمة هيكلية في سوق الإسكان الأميركي وتحديات في سياسات البناء والتنظيم.

معدلات الإنجاب

تقرير لموقع "بيزنس إنسايدر" يستيعن بعددٍ من النماذج، ليعكس تأثير الإيجارات وتكلفة الرهن العقاري على معدلات الإنجاب في الولايات المتحدة. من بين تلك النماذج آيانا غاي، وهي امرأة في الثلاثينيات من عمرها ومتزوجة منذ ثلاث سنوات.. بدأت هي وزوجها يفكران بجدية في إنجاب طفل مؤخراً؛ بعد أن جعلتهم عدة اعتبارات في حالة تردد، ليس فقط بسبب التكلفة الفلكية لرعاية الأطفال، والمخاوف من جلب طفل إلى عالم يعيش اضطرابات سياسية واقتصادية، بل أيضاً بسبب رهن عقاري مرهق.

في النهاية، قررا خوض التجربة. من المقرر أن تضع غاي مولودها الأول في منتصف أغسطس/ آب. تقول: "وصلنا إلى نقطة شعرنا فيها أننا أصبحنا قادرين على تحمل التكلفة أكثر مما كنا عليه سابقًا، لكن لم يكن الأمر أبدًا كأننا سنسير بسلاسة تامة".

ليست غاي وزوجها حالة فريدة، فبينما هناك أسباب عديدة لانخفاض معدل المواليد في الولايات المتحدة منذ العام 2008، أظهرت استطلاعات أن التكلفة المتزايدة لإنجاب الأطفال تتصدر قائمة هذه الأسباب. 
غالباً ما تتجاوز تكاليف رعاية الأطفال قيمة الرهن العقاري العادي، فيما لا يحصل نحو ثلاثة أرباع العاملين في القطاع الخاص على إجازة والدية مدفوعة الأجر، إضافةً إلى أن ارتفاع أسعار كل شيء تقريباً، من البيض إلى سيارات الميني فان، يفرض ضغوطاً إضافية على ميزانيات الأسر.

تكاليف الإسكان

تعد تكاليف الإسكان المرتفعة جزءاً رئيسياً من هذه المخاوف؛ إذ يكافح عدد قياسي من الأميركيين لتغطية إيجار مساكنهم أو أقساط رهونهم العقارية. كما أن القيود المفروضة على البناء واستخدام الأراضي، إضافةً إلى أعراف المطورين، جعلت المنازل المخصصة للبداية والشقق العائلية نادرة. وقد تراجع معدل المواليد بشكل أكبر في المناطق التي ارتفعت فيها أسعار الإسكان بأسرع وتيرة، فيما باتت الأسر تمثل الفئة الأسرع نموًا بين الأميركيين الذين ينزلقون إلى التشرد، وفق التقرير.



وهذه ليست مشكلة جديدة، إذ لطالما وُجد ارتباط وثيق بين تكاليف الإسكان ومعدلات المواليد في الولاياتت المتحدة. فالمناطق التي تتمتع بإسكان أرخص تميل إلى تسجيل معدلات مواليد أعلى؛ حيث كشف تقرير لشركة Zillow في العام 2018 أن معدلات الخصوبة ارتفعت في بعض المناطق الأقل تضخمًا في تكاليف السكن. بينما تُظهر المناطق التي تطبق قوانين صارمة لاستخدام الأراضي تحد من بناء مساكن أرخص وأكثر كثافة علاقة وثيقة بانخفاض معدلات الخصوبة.

في ورقة بحثية نُشرت في العام 2012 عن المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، وجد الاقتصاديان ليزا ديتلينغ وميليسا شيتيني كيرني، أن زيادة أسعار المنازل بنسبة 10% أدت إلى انخفاض المواليد بنسبة 1% بين غير المالكين للمنازل في تسعينيات القرن الماضي وبدايات الألفية.

ورقة أخرى في العام 2025، خلصت إلى أن ظهور القروض العقارية الحديثة ذات الدفعات المقدمة المنخفضة في ثلاثينيات القرن الماضي جعل امتلاك المنازل أكثر سهولة للشباب وأسهم في أكثر من ثلاثة ملايين ولادة إضافية، أي أن طفرة تملك المنازل ساعدت في خلق طفرة المواليد.

تطورات سوق الإسكان

بينما اليوم، الإيجارات باتت غير ميسورة لنصف المستأجرين في الولايات المتحدة، كما أصبح امتلاك منزل بعيد المنال لشريحة متزايدة من الشباب في العشرينات والثلاثينات من العمر. وكان متوسط عمر مشتري المنزل لأول مرة في العام 2024 يبلغ 38 عاماً، وهو رقم قياسي.

أظهر استطلاع حديث أن 60% من جيل زد قلقون من أنهم قد لا يمتلكون منزلاً أبداً. هذا النقص في الإسكان الميسور والمستقر يفاقم المخاوف المالية لدى كثير من الشباب بشأن إنجاب الأطفال.

ورغم أن غاي وزوجها اشتريا منزلهما في أورلاندو بولاية فلوريدا عام 2022، فإن تكاليف السكن تُثقل ميزانيتهما، خاصة مع النفقات الإضافية المتعلقة بالطفل. وبما أنهما يعملان من المنزل، تعتقد غاي أنهما سيحتاجان إلى منزل أكبر إذا أرادا إنجاب طفل ثانٍ. لكن من دون خيارات إسكان أرخص، فلن يُوسعا أسرتهما.

وتقول غاي: "إذا كان هناك وضع لا يُمكن فيه الحفاظ إلا على أحد الخيارين، فسنختار واحدًا فقط".

ويشير التقرير إلى أنه رغم أن انخفاض معدل المواليد في البلاد ليس كله أخباراً سيئة، إذ تقل أعداد المراهقين الذين يصبحون آباء، كما أن النساء الأميركيات يحصلن على تعليم أفضل، ويكسبن أموالًا أكثر، ويؤجلن الإنجاب أو يقررن عدم الإنجاب بمحض إرادتهن؛ إلا أن هذا الانخفاض يعكس أيضًا اتجاهات أكثر قتامة؛ فالنساء الأميركيات لا ينجبن عدد الأطفال الذي يصرحن بأنهن يرغبن به.

كما أن عدد أقل من الشباب، خاصة ذوي الدخل المحدود، يتزوجون أو يعيشون مع شركاء عاطفيين. ومع تراجع أوضاع الرجال الاقتصادية، تقل رغبة النساء في الزواج أو الإنجاب منهم. ويقول ثلث البالغين الأميركيين فوق سن الخمسين إنهم لم ينجبوا أطفالًا لأنهم لم يجدوا الشريك المناسب.

أكبر عقبة مالية

وبحسب تقرير حديث نشره "معهد الدراسات الأسرية" (IFS)، وهو مركز أبحاث محافظ، فإن تكاليف الإسكان هي العامل الأبرز الذي يمنع الأميركيين من إنجاب العدد الذي يرغبون به من الأطفال.

وأظهر استطلاع أجراه المعهد على أكثر من 8 آلاف أميركي تتراوح أعمارهم بين 18 و54 عامًا أن ربع المشاركين أشاروا إلى تكاليف السكن كأحد أبرز مخاوفهم، في حين أشار 30% إلى تكاليف رعاية الأطفال، و26% إلى رغبتهم في مزيد من وقت الفراغ. لكن تكاليف السكن كانت العامل الأكثر تأثيرًا في حجم الأسر.

يقول المؤلف المشارك للتقرير ومدير "مبادرة تعزيز الإنجاب" بالمعهد لايمان ستون: "الإسكان هو أكبر عقبة مالية تواجه الأسر. إنه أول ما يخطر في البال بمجرد أن يبدأ الناس في التفكير بالإنجاب".

اقرأ أيضاً: أميركا.. معدل المواليد في تراجع والسبب تكاليف المعيشة!

وتكشف أبحاث ستون أن المشكلة لا تكمن فقط في تكلفة الإسكان، بل أيضاً في ندرة المنازل التي تجذب العائلات أكثر: المنازل ذات الغرفتين أو أكثر، الواقعة في مجتمعات آمنة، قابلة للمشي، وتضم مدارس جيدة. فالناس الذين لديهم أطفال أو يفكرون في إنجابهم يفضلون المنازل المنفصلة على الشقق، وقبل كل شيء يبحثون عن مساحة تسمح لهم بالتوسع. ويقول ستون: "الحقيقة أن منح الناس شققًا أكبر تحتوي على غرف نوم إضافية يجعلهم أكثر استعدادًا لإنجاب الأطفال".

السبب الجوهري وراء ارتفاع أسعار الإيجارات والرهون العقارية هو النقص الحاد في المساكن، خاصة المنازل المخصصة للعائلات.

وتوضح الباحثة في شؤون الإسكان بمركز ميركاتوس التابع لجامعة جورج ميسون، إميلي هاميلتون، أن الأفراد غير المتزوجين يمكنهم مشاركة السكن مع آخرين لتوزيع التكاليف، لكن العائلات التي لديها أطفال لا يمكنها فعل الشيء ذاته، وبالتالي لا تستطيع بسهولة التخفيف من عبء الإيجارات المرتفعة. وتضيف: "بشكل عام، يمكن لمجموعة من الأصدقاء دفع إيجار أعلى بكثير مما يستطيع أب أو أم عاملة تحمل تكلفته".
كما أن المطورين العقاريين لا يجدون حافزًا لبناء مساكن عائلية ميسورة التكلفة، خاصة في المدن الباهظة. فهم يفضلون بناء نوعين أكثر ربحية: منازل منفصلة واسعة ذات حدائق في ضواحي المدن، أو أبراج شقق كبيرة تضم وحدات صغيرة بغرفة واحدة أو استوديو في قلب المدن. وكلا النوعين لا يوفران خيارات مناسبة وبأسعار معقولة للعائلات.

موقف الإدارة الأميركية

وفيما يتعلق بنظرة الإدارة ا لأميركية للأزمة الحالية، يتحدث الرئيس دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس بصراحة عن مخاوفهما بشأن انخفاض معدل المواليد. وقد اشتهر فانس بتحميل "النساء العازبات المحبات للقطط" مسؤولية مشكلات المجتمع، في حين تعهد ترامب بإطلاق "طفرة مواليد" جديدة.


وتركز سياساتهما الداعمة للإنجاب على توسيع المساعدات النقدية الفدرالية الموجهة للآباء، بما في ذلك مقترح ترامب بتقديم "مكافأة طفل" قدرها 5,000 دولار. كما ناقشا فتح الأراضي الفيدرالية أمام مشاريع الإسكان، وهي فكرة لاقت دعم بعض الديمقراطيين أيضًا.

الشريك المؤسس لمعهد الدراسات الأسرية (IFS)، براد ويلكوكس، يقول إن المعهد أجرى محادثات مع مجلس السياسات الداخلية في إدارة ترامب بشأن السياسات الداعمة للإنجاب، مشيرًا إلى جهود الإدارة لبيع الأراضي الفدرالية لأغراض البناء السكني باعتبارها مسارًا واعدًا للمضي قدماً.

وكجزء من مشروع قانون جمهوري شامل أطلق عليه اسم "مشروع القانون الجميل الكبير"، تم توسيع الائتمان الضريبي للأطفال من 2,000 دولار لكل طفل إلى 2,200 دولار. غير أن المقترح يستثني أكثر العائلات حاجة، التي لا تحقق دخلاً كافيًا للاستفادة الكاملة من الميزة الضريبية. كما يشمل حزمة المصالحة مكافأة للأطفال على شكل حسابات استثمارية بقيمة 1,000 دولار تُودع لكل مولود أميركي في الفترة ما بين 2025 و2028.
ورغم أن بعض الباحثين وجدوا أن توسيع الائتمان الضريبي للأطفال من شأنه زيادة معدلات المواليد، إلا أن هذه الخطوة لن تكون كافية للعديد من الأميركيين.

تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي

الأكثر تداولاً

    أخبار ذات صلة

    الأكثر قراءة

    الأكثر تداولاً

      الأكثر قراءة