2025... سوق السندات على "الحبل" في "سيرك" الديون العالمية

نشر
آخر تحديث

استمع للمقال
Play

خاص CNBC عربية- لمياء نبيل

في ربيع عام 2025، بدأت الأنظار تتجه إلى أسواق الدين الحكومية بنظرة متوجسة. فسابقًا، كان يُنظر إلى السندات الحكومية على أنها الملاذ الآمن؛ لكن هذا المفهوم بدأ يتآكل تدريجياً.

ومع تزايد اقتراض الدول بعد جائحة كورونا، وارتفاع أسعار الفائدة، والتوترات السياسية، بدأ المستثمرون يطرحون السؤال: هل ما زالت هذه الديون "مضمونة"؟

حتى في الولايات المتحدة، التي طالما اعتُبرت أرقى ملاذ استثماري في السندات، شهدت مبيعات طروحات سنداتها تُستقبل بفتور. وفي بعض المزادات العشرينية خلال الصيف الماضي، كان الإقبال أقل من المتوقع، مما تسبب في ارتفاع العائدات، كرد فعل مباشر على مشاعر القلق.

وبالتوازي مع التحركات والمشاعر في الأسواق، كانت الأرقام تؤكد بشكل عملي تلك المخاوف، حيث أعلن معهد التمويل الدولي أن الدين العالمي اقترب من مستوى تاريخي يناهز 338 تريليون دولار، وهو رقم يُثير الدهشة والخوف في آن واحد. 
وفي ظل تلك الأرقام والمشاعر المتحركة بالتكهنات السوداوية، تبدأ الثقة تدريجياً بالتآكل، خصوصًا في الدول التي لا تمتلك نفوذاً نقدياً أو اقتصاديًا مستقراً.



ما الذي أزعج الأسواق؟

بحسب خلاصات العديد من بيوت الخبرة والمؤسسات المالية العالمية، هناك ثلاثة عوامل رئيسية وتراكمية تسببت في تزايد القلق داخل الأسواق لمستويات غير مسبوقة، ما دفعها إلى موجة حادة من التذبذبات:

العامل الأول تمثل في أسعار الفائدة العالية والطلب الضعيف، فمع قرارات البنوك المركزية لرفع أو تثبيت أسعار الفائدة لمكافحة التضخّم، أصبحت تكلفة الاقتراض مرتفعة.

ما يعني أنه حين يُطرح سند جديد، فإن المستثمر صار يطالب بعائد أعلى لتعويض المخاطر. وما أن تزيد الدول من العائدات، حتى تنزلق قيمة السندات القديمة؛ ليعود المستثمرون للمطالبة بسعر أعلى، وتستمر الدائرة الجهنمية التي لا يكسرها إلا الكف عن الاقتراض في لحظة ما.

في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ارتفاع عوائد السندات لأجل 30 سنة تجاوز 5% خلال الصيف، مما دفع البعض إلى مقارنة تكاليف اقتراض الحكومة بتلك الخاصة بشركات القطاع الخاص ذات التصنيف الائتماني العالي.

العامل الثاني يتمثل فيما يدعى بـ"المخاطر الزمنية" (Term Premia) المُرتفعة، ويفسر ذلك بشكل مبسط في فكرة أن المستثمر لا يشتري سندًا لمدة عشرات السنين بدافع الثقة فقط، بل يطالب بأن يُعوَّض عن المخاطر الزمنية (التغيرات في سعر الفائدة، والمخاطر السياسية والاقتصادية).

وفي عامي 2024 و2025، تم رصد مخاوف كبرى تتعلق بهذه المكونات والمتغيرات، مما دفع عوائد السندات طويلة الأجل بشدة إلى مستويات مرتفعة غير مسبوقة.

أما العامل الثالث فيتصل بضغوط السيولة ونهاية التسهيل الكمي.. ففي العقد الماضي، دعمت البنوك المركزية الأسواق بشراء السندات وتوفير السيولة. لكن مع التوجيه نحو التشديد الكمي (Quantitative Tightening)، بدأت تلك البالونات المالية تنكمش.

وإضافة إلى ذلك فإن بعض أدوات السيولة، مثل عمليات الريبو، بدأت تشهد ضغوطًا في كثير من مناطق العالم.


اقرأ أيضا: بلاك روك تحذر من مخاطر ارتفاع الدين الحكومي على السوق الأميركية


من العام إلى الخاص

وإضافة إلى تفشي حالة الخوف في الأسواق العالمية بشكل عام، كانت هناك عوامل محلية خاصة في عدد من الدول ذات التأثير.
وضمن الأمثلة الأشهر، ضعف الاكتتاب العام في سندات ال20 عاما في الولايات المتحدة، ما أدى إلى قفزات في العائدات، وبالتالي إلى رفع المخاوف من أن الطلب على الدين الحكومي بدأ يصل إلى ما يعرف بـ"حدود الإنهاك"، أو الحاجة إلى الحصول على ديون طويلة دون القدرة على توفير ضمانات كافية.

أما في الصين، فكان هناك وجه أخر مختلف للأزمة، حيث شهدت السندات الحكومية نفورًا من الاستثمارات الأجنبية التي شهدت تخارجات كبيرة خاصة في شهر أغسطس، مع استمرار التوترات الاقتصادية والتجارية بين الولايات المتحدة والصين.. وبالتالي وصلت الملكية الأجنبية إلى أدنى مستوياتها في السنوات الأخيرة.

وفي بريطانيا، كانت هناك أسباب سياسية، حيث تلقت العطاءات على سندات الدولة (gilts) لآجال طويلة طلبًا ضعيفًا بسبب المخاوف السياسية من سياسة إنفاق الحكومة والتشكيك في قدرة البلاد على تمويل ديونها، بحسب تحليلات صحيفة "الغارديان" البريطانية.

أما اليابان، الدولة ذات الديون الأضخم من حيث النسبة إلى الناتج المحلي (235%)، فإن حجم تلك الديون كفيل بجعل أي هزة في سوق الديون العالمي بمثابة زلزال في السوق اليابانية، إضافة بالطبع إلى فقدان الثقة في الحكومة وخسارتها الأخيرة للانتخابات.

فقدان الثقة

تبدأ القصة الحقيقية دائما في اللحظة التي يقف فيها المستثمرون أمام خيار: هل أُجدد العطاء على سند حكومي جديد؟ أم أبحث عن ملاذ أقل مخاطرة، حتى لو بعائد أقل؟

وعندما تتقارب عوائد السندات في دول متقدمة، أو حتى ترتفع في الدول الناشئة، يبدأ المستثمر في موازنة العوائد مقابل المخاطر. تلك اللحظة هي لحظة فقدان الثقة: إذ يدرك أن "سندات الحكومة" ليست خطًا أحمرًا دائمًا.

وفي الأسابيع الأخيرة، رُصد في السوق عزوف عن الاكتتاب في السندات الأميركية، مع ارتفاع في العوائد الرسمية والضغط على المزادات الحكومية، بحسب "وول ستريت جورنال". بل وحتى في الأسواق الناشئة، فإن الفوارق (spreads) بين ديون تلك الدول وبين سندات الخزانة الأميركية واصلت الارتفاع، بحسب أحدث تقارير مؤسسة "أونكتاد".

وعندما يبدأ المستثمر بإعادة تقييم "موثوقية الحكومة" أو قدرتها على التمويل، فذلك هو الوقت الذي تبدأ فيه الأمور بالدخول في الدائرة المفرغة والانهيار الذي يشمل: بيع السندات، وارتفاع العوائد، وهروب رؤوس الأموال، وتراجع قيمة الدين كأداة استثمارية.


اقرأ أيضاً: وزير الخزانة الأميركي: الرسوم الجمركية لا تزال قابلة للارتفاع إلى مستويات 2 أبريل


إلى أين؟  

أغلب المؤسسات المالية ومؤسسات الاستشارات المالية وضعت سيناريوهات متعددة لتطورات أزمة الديون والسندات العالمية، لكن هذه السيناريوهات يمكن تلخيصها في 5 اتجاهات.

أولا ما يعرف باسم "التكيّف والتسوية" من أجل تهدئة الضغط والطلب على أسواق الدين، وفي هذا السيناريو قد تلجأ الحكومات إلى خفض الإنفاق أو إعادة هيكلة الديون جزئيًا، مع إبطاء الاقتراض. كذلك قد تُدخل تشريعات تُقيّد الدين العام أو تُعيد ترتيب أولويات الإنفاق، لتطمئن الأسواق.

أما السيناريو الثاني، فيتمثل في تعزيز الثقة بالعملات الاحتياطية البديلة، حيث أن ذلك قد ينجح -في بعض الدول- عبر تعزيز استخدام عملات بديلة أو التنويع في مخصصات الاحتياطي، بعيدًا عن دين الحكومة الأميركية مثلاً، لتقليل التعرض للمخاطر السيادية.

أما السيناريو الثالث، وهو السيناريو المثالي، فيتمثل في الإصلاح المالي الجذري. لكنه سيناريو يحمل تحته العديد من التشعبات والأنماط، منها التقليدي، ومنها ما هو خارج الصندوق، مثل ما يعرف بـ"التحويل الرمزي للديون" (tokenized sovereign debt conversion)، حيث تُحوَّل السندات إلى أدوات ترتبط بأداء النمو، ما يخفف العجز والتوترات المالية.

السيناريو الرابع، وهو السيناريو السوداوي، فيتمثل في ما يعرف باسم "الأزمة السيادية"، وذلك حين تفقد حكومة دولة ما القدرة على سداد التزاماتها، فتدخل في حالة عجز أو إعادة هيكلة قسرية، مثل ما حدث في أزمات ديون سابقة في بعض الدول النامية.

أما السيناريو الخامس، فهو السيناريو "الحالم"، والذي يتمثل في توفير تعاون دولي حقيقي وسياسات تنسيقية، وذلك عبر تعاون البنوك المركزية والدول الكبرى لتثبيت أسعار الفائدة، ودعم أسواق الدين، وإصدار أدوات مشتركة للطوارئ، لتقليل مخاطر العدوى المالية بين الدول... لكنه بالطبع سينايو بعيد عن الواقع.


اقرأ أيضا: مستثمرو الديون الأميركية يدقون ناقوس الخطر بشأن معايير الإقراض


بين الواقع والرهانات

وفي الخلاصة، فإن قصة أزمة السندات في عام 2025 ليست مجرد صراع أرقام، بل اختبار لثقة العالم في البنى المالية التي بنتها الحكومات خلال عقود. فالسندات لم تعد أصلا مطمئنًا؛ بل أصبحت مرآة تُظهر مدى هشاشة التمويل العام تحت وطأة الدين المرتفع، والسيولة المُتقلّبة، والتوترات السياسية.

وإذا فشل العالمُ في ضبط سقوف الدين، ومعالجة العجوزات، وإعادة بناء الثقة، فقد ندخل حقبة يُنظر فيها إلى السندات الحكومية ليس كملاذ، بل كرهان محفوف بالمخاطر... وربما تتحول إلى "ورق بلا ثمن". لكن إذا نجح العالم في التكيّف والإصلاح، فقد يكتب التاريخ أن عام 2025 كان السنة التي نجا فيها سوق الديون العالمي من على شفا الانهيار.

تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي

الأكثر تداولاً

    أخبار ذات صلة

    الأكثر قراءة

    الأكثر تداولاً

      الأكثر قراءة