على الرغم من الأجواء التشاؤمية التي سيطرت على بداية 2025، مدفوعة بتصاعد الخطاب الحمائي للرئيس الأميركي دونالد ترامب ومخاوف الفقاعة في الأسواق، جاءت النتائج الاقتصادية مخالفة تماماً للتوقعات؛ فالنمو العالمي والتجارة والأسواق المالية سجلت أداءً أفضل نسبياً من تقديرات الإجماع، ما دفع محللين إلى إعادة تقييم فرضياتهم الأساسية.
في هذا السياق، تبرز ثلاثة عوامل رئيسية تفسّر لماذا أخطأ كثير من الاقتصاديين في تقدير مسار العام الذي شارف على الانتهاء.
أولا: المبالغة في تقدير أثر تهديدات ترامب التجارية
كانت الرسوم الجمركية محور معظم التوقعات الاقتصادية العالمية. فوتيرة فرض الرسوم في الأشهر الأولى من العام عززت الاعتقاد بأن الإدارة الأميركية ماضية في تنفيذ أجندتها الحمائية بالكامل.لكن مع مرور الوقت، اتضح أن كثيراً من هذه التهديدات كان أقرب إلى “مناورات تفاوضية” سرعان ما يتم التراجع عنها، خصوصاً بعد ردود فعل سلبية من أسواق الأسهم والسندات.
كما أن الإدارة لجأت إلى استثناءات وتعديلات لتخفيف الأعباء عن قطاعات استراتيجية، ما أدى إلى تراجع المعدل الفعلي للرسوم مقارنة بالذروة. هذا التراجع أسهم في تحسين توقعات النمو العالمي ودعم شهية المخاطرة في الأسواق، حسب تحليل نشرته فايننشال تايمز.
اقرأ أيضاََ: الفدرالي الأميركي قد يواجه مأزقاً أثناء تمهيده الطريق لخليف "باول"
ثانيا: قوة التحمّل الاقتصادي
رغم أن متوسط الرسوم الأميركية لا يزال أعلى بسبعة أضعاف مقارنة بالعام الماضي، فإن الأداء الاقتصادي كان أقوى من المتوقع.
السبب الرئيس -وفق تحليل الصحيفة- هو أن المحللين قللوا من قدرة الاقتصادات والشركات على التكيف. وتبرز الصين كنموذج في هذا السياق، وذلك بعد أن اتخذت عدة إجراءات؛ من أهمها أنها استفادت من سيطرتها على سلاسل التوريد، وعززت صادراتها إلى أسواق بديلة، وواصلت الابتكار بوتيرة لافتة، خصوصاً بعد بروز نموذج ذكاء اصطناعي منخفض التكلفة أحدث صدى عالمياً
هذه السيولة دفعت صندوق النقد الدولي إلى رفع توقعاته لنمو الصين إلى 5%، أي أعلى بنقطة مئوية كاملة من تقديراته السابقة.
سياسات التحفيز العالمية
كما أن حكومات عدة حول العالم تحركت سريعاً لمواجهة تداعيات سياسة “أميركا أولاً” التي أعلنها ترامب، وذك من خلال عدة إجراءات؛ منها زيادة الإنفاق العام، وإطلاق إصلاحات اقتصادية، والسعي لتوقيع اتفاقيات تجارية جديدة. هذه التدابير دعمت الثقة والنشاط الاقتصادي في أوروبا وآسيا والأسواق الناشئة.
الشركات الأميركية.. مفاجأة العام
وفي سياق متصل، فإن الكثير من الاقتصاديين والكتاب قللوا من قدرة الشركات الأميركية على امتصاص الصدمات، وهو ما انعكس على توقعاتهم المتشائمة للأسهم والاقتصاد خلال عام 2025.
لكن الشركات نجحت في عدة اتجاهات، على رأسها، بناء مخزونات قبل فرض الرسوم، والتحول إلى موردين محليين أو منخفضي الرسوم، وخفض التكاليف وتحسين الكفاءة التشغيلية. كما أن “الاستيراد المسبق” قبل تطبيق الرسوم رفع حجم التجارة العالمية خلال العام.
ثالثاََ: عوامل امتصاص الصدمات
حتى مع مرونة الشركات، فإن قوة الاقتصاد الأميركي فاقت التوقعات. وهنا لعبت عدة عوامل دور “ممتصات الصدمات” فى قطاعات عدة، من بينها:
قطاع الرعاية الصحية: حافظ القطاع على قوة إنفاق الأسر الأميركية، وشكّل 83% من الوظائف الجديدة في الولايات المتحدة خلال 2025
الذكاء الاصطناعي: أسهمت طفرة الذكاء الاصطناعي بنصف معدل النمو الأميركي البالغ 1.6% في النصف الأول، وعززت الاستثمارات في معدات تكنولوجيا المعلومات، كما رفعت نشاط بناء مراكز البيانات لتعويض ضعف الاستثمار التقليدي
كما أدى الطلب القوي على أسهم التكنولوجيا إلى دعم المؤشرات الأميركية، في ظل تقييمات مرتفعة استمرت في جذب المستثمرين.
من جانب آخر، تشير تقديرات منظمة التجارة العالمية إلى أن الرقائق والخوادم ومعدات الاتصالات شكلت نحو نصف نمو التجارة العالمية في النصف الأول من العام.
الدولار الضعيف: أسهم ضعف الدولار في تعزيز أداء الأسواق الناشئة، ليصبح عاملاً إضافياً في استقرار الاقتصاد العالمي.
التوقعات كانت دقيقة في المخاطر… لكنها أخطأت في قراءة التفاعلات
المحللون لم يخطئوا في تشخيص المخاطر الأساسية مثل تأثير الرسوم، وحالة عدم اليقين، وتقييماتهم للأسواق. لكنهم أخطأوا - حسب تقرير فايننشال تايمز- في تقدير، مرونة الاقتصادات، وقدرة الشركات على التكيف، والعوامل الإيجابية غير المحسوبة،والزخم الاستثنائي للذكاء الاصطناعي.
لكن ومع ذلك، هناك عدد من السيناريوهات المتفائلة التي طُرحت في الربع الأول تحققت بالفعل.، رغم أن ذلك لا يجل أن يدعونا للإفراط في التفاؤل.
فقرارات المحكمة العليا بشأن قانونية الرسوم الجمركية، والانتخابات النصفية التي ستشهدها أميركا، وتشديد سياسات الهجرة، واحتمال انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعي، كلها عوامل قد تعيد رسم المشهد سريعاً.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي