بينما يودّع الخريجون الجدد مقاعد الدراسة ويتّجهون نحو سوق العمل، سرعان ما تتحوّل ملامحهم المتفائلة إلى شعور بالإحباط. فمن أميركا الشمالية إلى أوروبا، يُعاني خرّيجو الجامعات من صعوبة في العثور على وظائف مناسبة.
وفي الولايات المتحدة، وللمرة الأولى منذ جائحة كوفيد-19، بات معدّل البطالة بين حديثي التخرّج يتجاوز المعدّل الوطني بشكل مستمر. أما في الاتحاد الأوروبي، فقد تراجعت معدلات التوظيف للفئة العمرية بين 15 و25 عاماً خلال العامين الماضيين.
حتى النخبة الأكاديمية لم تسلم من هذا التراجع؛ إذ ارتفعت نسبة طلاب ماجستير إدارة الأعمال من كبرى المدارس مثل «هارفارد» و«إم آي تي سلون» الذين لم يحصلوا على عروض عمل بعد مرور ثلاثة أشهر من التخرّج، وذلك بشكل ملحوظ منذ عام 2021، بحسب صحيفة فايننشال تايمز.
ويُعدّ صعود الذكاء الاصطناعي من العوامل المؤثّرة في هذا الاتجاه. ففي الولايات المتحدة، باتت وظائف التقنية للمبتدئين تحت ضغط متزايد مع تسارع أتمتة مهام البرمجة. وقد بلغ معدّل البطالة بين خريجي هندسة الحاسوب 7.5%، مقارنةً بمعدّل وطني قدره 4.1%.
وفي بريطانيا، خفّضت شركات المحاسبة الكبرى الأربع من حجم التوظيف في المراحل المبكرة من المسار المهني خلال الأعوام الأخيرة. ويعتقد خبراء الاقتصاد والتوظيف أن ارتفاع التكاليف يدفع شركات الخدمات المهنية البريطانية إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في تنفيذ مهام إدارية كانت تُسند عادة إلى الموظفين الجدد.
اقرأ أيضاً: قواعد غير مكتوبة يجب مراعاتها في أماكن العمل... وطعام الغداء على رأس القائمة
لكن معاناة الخريجين لا تعود فقط إلى ظهور نماذج اللغة الكبيرة في بيئات العمل؛ فثمّة عوامل بنيوية أخرى تلعب دوراً أساسياً. إذ إنّ تزايد أعداد الشباب الذين يختارون الالتحاق بالجامعات حول العالم أدّى إلى احتدام المنافسة على الوظائف.
ففي كندا، التي تُعدّ وجهة مفضلة للخريجين الشباب، بلغ معدّل البطالة بين من هم دون الخامسة والعشرين من الحاصلين على تعليم ما بعد الثانوي 11.2% خلال الربع الأول من العام. وفي المملكة المتحدة، بلغ متوسط عدد الطلبات على كل وظيفة مخصصة للخريجين العام الماضي 140 طلباً — وهو أعلى مستوى يُسجَّل منذ ثلاثة عقود، بحسب «معهد أصحاب العمل الطلابي».
ومع ارتفاع المعروض من الخريجين المؤهلين، تراجعت مستويات الطلب. فقد أظهرت دراسة أجراها موقع «إنديد» المتخصّص في البحث عن الوظائف، أن نسبة إعلانات الوظائف في الولايات المتحدة التي تتطلّب حداً أدنى من المؤهلات الجامعية انخفضت خلال السنوات الخمس الماضية.
أما في القطاع العام، فتعاني أجهزة الخدمة المدنية في الدول المتقدمة من ضغوط مالية متزايدة، ما يُقيّد قدرتها على التوظيف. وفي الوقت نفسه، اتجهت الشركات متعددة الجنسيات، التي تملك برامج توظيف كبرى للخريجين، إلى إنشاء مراكز كفاءة عالمية في دول منخفضة التكلفة مثل الهند، حيث باتت تُسند إليها أدواراً أكثر مهارة مثل تحليلات البيانات، وليس فقط المهام الإدارية أو المكتبية الخلفية.
لم تكن الدورة الاقتصادية الأخيرة رحيمة بالخريجين الجدد أيضاً. فقد بالغت شركات الخدمات المهنية والتكنولوجيا في التوظيف خلال السنوات التي أعقبت الجائحة، بناءً على افتراضات متفائلة بأن النشاط الاقتصادي سيعود سريعاً إلى مستوياته السابقة —وهو ما لم يحدث. ومنذ ذلك الحين، خفَّت جولات التوظيف بشكل عام.
كما تأثر الطلب على محللي البنوك الاستثمارية والمحامين حديثي التأهيل بتباطؤ عمليات الاندماج والاستحواذ على مستوى العالم. وتُضيف حالة عدم اليقين الاقتصادي العالمية مزيداً من الصعوبة أمام الشركات في وضع خططها الاستثمارية ودورات التوظيف المستقبلية.
شاهد أيضاً: الذكاء الاصطناعي يفرض واقعه في سوق العمل.. 4 من كل 10 مهارات مهددة بالاختفاء!
وحتى إذا تحسّن المناخ الاقتصادي، فإن الخريجين سيواجهون استمرار صعود الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل، إلى جانب اشتداد المنافسة على الوظائف الموجّهة للمبتدئين. ومن شأن تعزيز فهم الطلاب للفرص الواقعية بعد التخرّج أن يساعدهم على اتخاذ قرارات دراسية أكثر وعياً. كما سيُصبح من الضروري أن تتعاون الجامعات والقطاع الخاص بشكل أوثق، لضمان تطوّر البرامج التعليمية بما يواكب احتياجات سوق العمل المتغيّرة.
ومع ذلك، فإن على الحكومات والشركات أن تعزّز دعمها لبرامج التدريب المهني والتعليم المستمر، إذ إن الشهادات الجامعية التي تستغرق ثلاث سنوات قد تفقد قيمتها بسرعة في بيئة متسارعة التغيير. وينبغي أن تدفع معاناة خرّيجي الجامعات نحو استثمارات أكبر في مسارات التدريب المهني والتلمذة الصناعية، وهي مطالب ظلّت الأوساط الاقتصادية تُنادِي بها منذ سنوات.
فوجود فائض من النخب المتعلّمة غير المستثمرة إنتاجياً يُمثّل خطراً على الاقتصاد والمجتمع معاً. ولتفادي تحوّل هذا الواقع إلى سِمة دائمة، لا بدّ أن تتحوّل الجامعات من كونها «تذكرة» إلى وظيفة، إلى كونها «عدة مهارات» تُمكّن الأفراد من مواكبة عالم يتغيّر باستمرار.
شاهد أيضاً: ما هي المهارات الأسرع نمواً في سوق العمل؟
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي