من المتوقع أن يشهد هذا العام صيفاً حاراً جديداً يسجّل أرقاماً قياسية، حيث قد تصل درجات الحرارة إلى 39 درجة مئوية في باريس. ويؤدي ارتفاع درجات الحرارة، إلى جانب التحولات الثقافية وتغيّرات مستويات الدخل، إلى زيادة الطلب على أجهزة التكييف، وفقاً لتقرير صادر عن وكالة الطاقة الدولية نُشر الأسبوع الماضي.
ووفقاً لبيانات الوكالة، لا تزال نسبة امتلاك أجهزة التكييف منخفضة نسبياً في أوروبا، ولا تتجاوز 20%. في المقابل، تصل نسبة انتشار أجهزة التكييف في أميركا إلى نحو 90%، بحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية.
لكن هذا الواقع قد يتغير، إذ قال باولو سبّرانزي، الشريك في شركة «ماكينزي»، لـ CNBC إن هناك نوعاً من "التسارع" في سوق التبريد الأوروبية، لا سيّما في ظل موجات الحر التي شهدها هذا العام.
وأضاف سبّرانزي: «ثمة تغيّر ملحوظ، إذ نشهد موجات حر أطول وأكثر تكراراً، حتى في شمال أوروبا حيث لا تزال معدلات انتشار أجهزة التكييف منخفضة».
تُستخدم الطاقة في قطاع التبريد لتشغيل كل شيء من المنازل والمستشفيات إلى مراكز البيانات، لكنها كثيراً ما تُغفل في السياسات الحكومية لصالح مصادر الانبعاثات الأكثر وضوحاً مثل السيارات والطيران. وتشير وكالة الطاقة الدولية إلى أن الطلب على الطاقة للتبريد قد يرتفع بنحو ثلاثة أضعاف بحلول عام 2050 إذا لم يُعالَج هذا التحدي بشكل فعّال.
اقرأ أيضاً: تغيّر المناخ يطاردنا حتى في أحلامنا.. موجات الحر تقلل من عمق النوم وتجعله أكثر صعوبة!
وبما أن التدفئة والتبريد في المباني تُمثل 20% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون عالمياً، فإنها تُعد «أداة حاسمة» في جهود خفض الانبعاثات، وعنصراً أساسياً يجب مراعاته عند تطوير أجيال جديدة من أجهزة التكييف تسهم في تعزيز الاستدامة، بحسب سبّرانزي.
خلال موجات الحر هذا العام، سجّلت فرنسا –حيث لا تزال نسبة امتلاك أجهزة التكييف منخفضة– ذروة في استهلاك الكهرباء تجاوزت المتوسط خارج الموسم بنسبة 25%، بحسب وكالة الطاقة الدولية. وفي وقت سابق من هذا العام، كشفت انقطاعات الكهرباء الواسعة التي طالت إسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا عن أهمية أمن الطاقة، وضرورة أن تكون شبكات الكهرباء في المنطقة قوية بما يكفي للتعامل مع أحمال أكبر.
وقال سبّرانزي: «لطالما اعتُبرت أجهزة التكييف من الكماليات أو حتى مضيعة للمال، خاصة في ظل ارتفاع أسعار الكهرباء في أوروبا»، مشيراً إلى أن عوامل أخرى ساهمت في تغيّر النظرة إلى التكييف، منها انتشار العمل من المنزل، وأن الأجيال الشابة باتت أقل ميلاً إلى اعتبار أجهزة التكييف ترفاً.
ووصف سبّرانزي هذا التحول بأنه «دوري» في معظمه، موضحاً أن بعض العملاء يتوقعون أن يكون عام 2025 عاماً «محظوظاً»، ما يشير إلى وجود قدر من عدم اليقين حول مدى استمرارية هذا التوجه. ومع ذلك، أعرب عن توقعه بتحقيق «نمو جيد» في السوق، قد يتراوح بين نسب أحادية منخفضة إلى متوسطة.
كما أشارت وكالة الطاقة الدولية إلى أن الدخل الأسري يُعد عاملاً أساسياً، حيث لا يزال الحصول على وسائل التبريد «غير متكافئ بدرجة كبيرة» حول العالم.
في دول مثل فرنسا (18% إلى 26%) وألمانيا (19%)، لا تزال معدلات انتشار أجهزة التكييف منخفضة نسبياً، بحسب فابيان فوسفينكل، محلل سياسات كفاءة الطاقة في وكالة الطاقة الدولية. في المقابل، فإن دول جنوب أوروبا مثل إسبانيا وإيطاليا (حوالي 50%) واليونان (60%)، تسجّل معدلات أعلى بكثير.
شاهد أيضاً: ارتفاع درجات الحرارة في مصر ينعش سوق أجهزة التكييف رغم غلاءها
وأوضح فوسفينكل أن الطلب يتزايد على كل من الأجهزة المحمولة وأنظمة التكييف المتكاملة في المنازل، لكن وتيرة هذا الطلب تختلف بين النوعين. فأنظمة التكييف المتكاملة تتطلّب وقتاً أطول في التركيب وتُعد عادةً عملية شراء لمرة واحدة، ما يجعل نمو الطلب عليها أبطأ. أما في حالة الأجهزة المحمولة، فقد تسبّب الطلب الحاد في حدوث طوابير انتظار قد تمتد «لعدة أشهر، حتى ما بعد انتهاء فصل الصيف»، ما يعكس نمطاً من الطلب «المتقطّع» أو الموسمي الحاد.
وبالإضافة إلى الزيادة الحادة في الطلب على أجهزة التكييف المحمولة، شهدت شركات مثل «جونسون كونترولز» – المتخصصة في تقنيات الأبنية –تزايداً في الاهتمام بتقنيات التدفئة والتهوية والتكييف المستخدمة في مراكز البيانات، والقطاع الصحي، والصناعات التحويلية، والعقارات التجارية.
وقالت كاتي مكنتي، رئيسة قسم الاستدامة في الشركة: «نحن نعمل عن كثب مع كبرى شركات الحوسبة السحابية لتشكيل مستقبل تصميم مراكز البيانات، مع التركيز بشكل خاص على إدارة الحرارة».
وأضافت: «مع تسارع تبنّي الذكاء الاصطناعي، تزداد الحاجة إلى أنظمة تبريد أكثر ذكاءً وكفاءة، مما يجعل تقنيات HVAC عاملاً حاسماً في التحوّل الرقمي».
وترى مكنتي أن زيادة الطلب على تقنيات التكييف والتهوية تمثّل فرصة أيضاً للشركات لتقليل التكاليف وتعزيز توافق عملياتها مع الأهداف البيئية الأوسع نطاقاً.
وأشارت كذلك إلى اتجاه آخر يشهد نمواً ملحوظاً في هذا القطاع، وهو تزايد الاعتماد على مضخات الحرارة، وهي أجهزة توفّر «حلّاً مزدوجاً» يجمع بين التدفئة والتكييف. وتساهم تشريعات أقرّتها دول الاتحاد الأوروبي في دعم هذا التوجّه من خلال تشجيع الأسر على تركيب هذه الأجهزة.
وقال سبّرانزي من «ماكينزي» إن مضخات الحرارة تمثّل السوق الأساسية التي يحقق فيها عملاؤه معظم أرباحهم، مدفوعين بالابتكار والطلب المتزايد على منتجات خضراء وذكية ومتكاملة.
اقرأ أيضاً: كيف تحرق موجات الحر جيوب المستهلكين؟
وأوضح: «التحوّل من الغلايات العاملة بالغاز إلى مضخات الحرارة هو ما يتحدث عنه الجميع حالياً، وهو محور الاستثمارات الكبرى. هناك اهتمام واسع من شركات الاستثمار المباشر، كما نشهد حركة كبيرة على صعيد استحواذ الشركات على بعضها البعض بهدف التوسع وزيادة القدرة على الاستثمار في البحث والتطوير، على سبيل المثال».
وأشار إلى أنه في عام 2019 كانت الحصة السوقية لأكبر خمس شركات في قطاع التدفئة والتهوية والتكييف (HVAC) في أوروبا تبلغ 45%، بينما ارتفعت تلك النسبة إلى 55% في العام الماضي.
وبحسب دييغو هيرنانديز دياز من شركة «ماكينزي»، فإن التوقعات الخاصة بنمو الأحمال الكهربائية في أوروبا خلال السنوات المقبلة تبدو «معقّدة»، إذ تختلف التقديرات بحسب كل دولة، وتتراوح بين 1% و8% سنوياً، بناءً على عدة عوامل متغيرة.
وقال دياز لـ CNBC إن من بين المحركات التي ستؤدي إلى زيادة الطلب، تزايد استخدام أنظمة التكييف والتدفئة في المنازل والمباني، ما يضيف أعباء جديدة على شبكات الكهرباء.
لكنّه أشار إلى عاملين قد يُساهمان في موازنة هذا الارتفاع. أولاً، التحسّن في كفاءة الطاقة يعني أن زيادة القدرة المركّبة لأنظمة التبريد لا تؤدي بالضرورة إلى زيادات متناسبة في الاستهلاك. وثانياً، لا يزال استهلاك الكهرباء في القطاع الصناعي –الذي يشكّل نسبة كبيرة من الطلب الإجمالي– في تراجع مستمر.
وأضاف دياز: «عند النظر إلى الاتجاهات التاريخية، والتحسينات في الكفاءة، والتراجع المتواصل في استهلاك الكهرباء الصناعي، قد تشهد بعض شركات المرافق تقلبات أو ذروات محلية، لكننا نرى أن الأثر الأوسع على النظام الكهربائي سيبقى محدوداً. فالصورة العامة تُشير إلى إعادة توازن أكثر منها إلى ضغط تصاعدي مستمر».
ورغم التوقعات بأن يكون تأثير الطلب على الكهرباء «محدوداً»، تبقى مسألة الضغط على شبكات الكهرباء مطروحة، لا سيّما أن بعض الدول تبدو أكثر استعداداً من غيرها.
فعلى سبيل المثال، أوضح فوسفينكل من وكالة الطاقة الدولية أن فرنسا تعتمد بالفعل على التدفئة الكهربائية على نطاق واسع خلال فصل الشتاء، كما أن مزيج الطاقة لديها يعتمد بدرجة كبيرة على الطاقة النووية. في المقابل، تعتمد ألمانيا بشكل رئيسي على التدفئة بالغاز، ما يجعل شبكات الكهرباء فيها غير مصمّمة لتحمّل أحمال كهربائية كبيرة ناجمة عن التدفئة أو التبريد.
ويجري حالياً توسيع شبكات الكهرباء في مختلف أنحاء أوروبا لاستيعاب الأحمال الإضافية الناتجة عن التبريد، وشحن السيارات الكهربائية، ومضخات الحرارة، وتحول الصناعات نحو الكهرباء.
وقال فوسفينكل: «لكن، في هذه اللحظة بالذات، إذا قرّر جميع الألمان فجأة شراء أجهزة تكييف محمولة وتشغيلها مساءً، فقد تصبح الأمور ضاغطة فعلاً».
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي