تعد سوق الإسكان البريطانية من بين أكثر أسواق العالم المتقدم اضطراباً، وذلك في ظل معاناتها من ارتفاع أسعار المنازل، وضرائب العقارات التنازلية، وعوائق نمو الإنتاجية، وعدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية بين الأجيال إلى جانب مشكلات أخرى، مما أزعج صانعي السياسات على مدى عقود.
ومن المتوقع أن تُحدد وزيرة المالية البريطانية، راشيل ريفز، في ميزانيتها القادمة، خططاً لإصلاح ضريبة الأملاك، وهو ما يعتبر خطوة ضرورية ومهمة نحو سوق أفضل أداءً.
ومع ذلك، فإن القضايا المطروحة معقدة للغاية، خاصة بسبب التفاعلات بين سوق الإسكان والاقتصاد الأوسع. ومن بين المخاطر العديدة على السوق، احتمال تعارض الحاجة الملحة لوزارة الخزانة إلى الإيرادات الضريبية مع الأهداف الاقتصادية والاجتماعية الأوسع.
اقرأ أيضاً: بريطانيا تطرح موازنة الخريف في 26 نوفمبر وسط ضغوط مالية متصاعدة
أبرز الأزمات التي تواجه سوق الإسكان
تشهد السوق أزمة في القدرة على تحمل التكاليف طويلة الأمد. فأرقام مكتب الإحصاءات الوطنية في بريطانيا تظهر أنه في حين تضاعفت الأجور في إنكلترا وويلز بين عامي 1997 و2024، تضاعفت أسعار المساكن بأكثر من أربعة أضعاف.
وخلال معظم الفترة المذكورة، تجاوز نمو متوسط أسعار المساكن الحقيقية في المملكة المتحدة جميع اقتصادات مجموعة السبع الأخرى. وهذا يُفاقم الإقصاء الاجتماعي لأنه يحد من فرص الحصول على فرص عمل أفضل، وظروف معيشية أكثر صحة، وفرص تعليمية، بحسب تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
بحسب مؤسسة ريزوليوشن، فإن مخزون المساكن في المملكة المتحدة أكثر ضيقاً في المساحة من العديد من الدول المماثلة، وأقل ملاءمةً للوظائف، كما أنه الأقدم في أوروبا والأقل عزلًا، وبالتالي أقل كفاءة في استخدام الطاقة.
وتشمل السمات السيئة الأخرى لسوق المساكن في المملكة انخفاض مستويات ملكية الشباب للمنازل، والإيجارات الخاصة المرتفعة للغاية، وانكماش قطاع الإيجار الاجتماعي، وتزايد التشرد.
ارتفاع أسعار الأراضي
يتمثل الأمر الأشد خطورة من تلك المشكلات في أنه خلال السنوات الأخيرة، كان أكثر من 70% من متوسط قيمة المنازل في المملكة المتحدة في الأراضي - وهو أعلى مستوى في مجموعة السبع - مع أقل من 30% في المباني. ويؤدي هذا إلى استفادة مالكي الأراضي والقطاع المالي من نصيب كبير من فوائد النمو، وفقاً لما قاله جون مولباور من جامعة أكسفورد، وديفيد سوسكايس من كلية لندن للاقتصاد للصحيفة البريطانية.
وذكر مولباور وسوسكايس أن جزءاً كبيراً من ريادة الأعمال في الاقتصاد البريطاني تحول إلى البحث عن الريع على حساب أنشطة أكثر إنتاجية.
ويؤكد مولباور وسوساكيس أن أسعار الأراضي السكنية غير المنطقية تعود في جزء كبير منها إلى الامتيازات الباهظة الممنوحة لمالكي الأراضي بموجب قانون تعويض الأراضي لعام 1961، والذي يمنع القيمة المضافة للأرض الناتجة عن عملية التخطيط من الوصول إلى الدولة ككل.
ويكمن في هذا أيضاً جزء كبير من تفسير ارتفاع تكلفة مشروعات البنية التحتية، مثل السكك الحديدية عالية السرعة، وبطء أوقات إنجازها مقارنةً بالعديد من الدول الأوروبية الأخرى. وتنشأ تشوهات إضافية لأن ارتفاع أسعار الأراضي يؤدي إلى منازل لا تهتم بالجودة والاستدامة البيئية من أجل خفض التكاليف. ويأتي معظم عائد شركات بناء المنازل في الوقت الحالي من أرباح رأس المال على الأرض. وهذا من شأنه أن يُضعف الحافز لتوفير مساكن عالية الجودة.
وفي حين تكون قيم الأراضي أكثر تقلباً بكثير من تكاليف البناء، فإن هذه النسب المرتفعة لحصص الأراضي تزيد من مخاطر الاستقرار المالي، والتي تتفاقم بسبب ارتفاع مستويات ديون شركات بناء المنازل في قطاع العقارات. وهذا بدوره قد يضر بنمو الناتج المحلي الإجمالي في حالة الأزمات المالية.
شاهد أيضاً: بريطانيا .. إطلاق برنامج للرهن العقاري بنسبة ضمان تتراوح بين 91% إلى 95% من قيمة العقار
زيادة المعروض
تمثل رد فعل الحزبين السياسيين الرئيسيين في بريطانيا على مشكلة القدرة على تحمل التكاليف في إلقاء اللوم على نقص المعروض، وكان الحل الرئيسي بالنسبة لهما بالتالي في تشجيع بناء المزيد من المنازل.
ومن بين العديد من مبادرات الإسكان التي طُرحت في البلاد، حدد حزب العمال هدفاً لبناء 1.5 مليون منزل جديد في إنكلترا بحلول عام 2029. كما يعمل الحزب على تحديث إطار تخطيط السياسات الوطنية، ويقترح تحقيق أكبر زيادة في بناء المنازل الاجتماعية وبأسعار معقولة منذ جيل، بالإضافة إلى بناء العديد من المدن الجديدة في جميع أنحاء إنكلترا.
ومن المتوقع أن يكون لمعالجة جانب العرض فائدة واضحة بالنظر إلى نظام التخطيط المتصلب، ونقص المساكن الحاد في بعض المناطق، والنقص في الإسكان الاجتماعي، والزيادة الكبيرة في إجمالي الهجرة منذ عام 2022. ومع ذلك، حتى لو حققت الحكومة أهدافها الطموحة، يبقى من المشكوك فيه ما إذا كان هذا سيساهم كثيراً في تقليص الفجوة الهائلة بين أسعار المنازل ودخل الأسر.
وقام ديفيد مايلز من إمبريال كوليدج ومكتب مسؤولية الميزانية، وفيكتوريا مونرو من بنك إنكلترا، بوضع نموذج لسوق الإسكان في المملكة المتحدة بهدف تفسير سبب زيادة أسعار المساكن مقارنةً بالدخل وأسعار المستهلكين الأخرى. وخلصت نتائج النموذج إلى أن الزيادة الكبيرة في العرض قد لا تُخفف إلا جزءاً صغيراً من الارتفاع الهائل في أسعار المساكن - حتى مع زيادة كبيرة في بناء المساكن على مدى عقود.
اقرأ أيضاً: تحول مفاجئ.. لماذا تباع المنازل الجديدة في أميركا بأسعار أقل من القائمة؟
هل فكرة نقص المساكن حقيقية أصلاً؟
هناك تحذير أكثر جوهرية بشأن حل مشكلة البناء، وهو أن فكرة نقص المساكن بحد ذاتها قد تكون غير حقيقية. ويعتقد كريس واتلينغ، من شركة "لونغفيو إيكونوميكس"، وهي شركة استشارية بحثية مستقلة، بأن البلاد بنت منازل أكثر في جميع أنحاء المملكة المتحدة مما هو مطلوب للتعامل مع النمو السكاني الناجم بشكل كبير عن الهجرة.
وبناءً على أرقام مكتب الإحصاءات الوطنية، يقول واتلينغ إنه قبل جائحة كوفيد، أي خلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2019، بلغ متوسط النمو السكاني الصافي 407 ألف نسمة. ويُظهر قسمة هذا الرقم على متوسط حجم الأسرة البالغ 2.4 فرد لكل أسرة، أنه خلال هذه الفترة، احتاج النمو السكاني في المملكة المتحدة إلى 170 ألف منزل إضافي سنوياً لاستيعاب الزيادة السكانية، في حين أن عدد المنازل المبنية حديثاً ارتفع بشكل طفيف إلى 176 ألف منزل، لذا يبدو أن المملكة المتحدة بنت مساكن أكثر من المطلوب - على الأقل قبل موجة الهجرة من عام 2022 - لإيواء السكان.
ومع ذلك، ربما كانت هناك حاجة إلى مساكن جديدة لتحل محل المباني القديمة المتهالكة، وفي هذه الحالة، لن يتم استخدام بعض العقارات الجديدة في إيواء المهاجرين الجدد. لكن هذا سيظهر في البيانات الحكومية المتعلقة بمخزون المساكن السنوي.
وتشير تلك البيانات إلى أن نمو إجمالي مخزون الوحدات السكنية بلغ في المتوسط مستوى أعلى بكثير، وهو 215 ألف وحدة سنوياً من عام 2001 إلى عام 2019، مع انعكاس النمو الإضافي في أمور مثل التجديدات، والتحويلات، والامتدادات.
ويخلص واتلينغ إلى أن فرضية نقص العرض لا تدعمها الأدلة على المدى الطويل. بل تشير الأرقام إلى أن أزمة السكن لا تتعلق بالنقص بقدر ما تتعلق بالتوزيع غير المتكافئ للمنازل بين السكان.
دراسة جانب الطلب
ويترتب على كل هذا أن جانب الطلب في السوق يحتاج إلى دراسة أدق. ومن الجدير بالذكر أن الفترات التي بلغت فيها دوامة أسعار المساكن ذروتها قد تزامنت مع التحرير الجذري للنظام المالي البريطاني.
في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، سمحت حكومة مارغريت تاتشر للبنوك التجارية بدخول سوق الرهن العقاري، الذي كان في السابق حكراً على جمعيات البناء. في ظل النظام القديم، كانت القروض تُموّل بالكامل من ودائع أعضاء الجمعيات، مما يضمن ميل نمو الائتمان إلى الارتفاع بما يتماشى مع ارتفاع الدخول. بما أن المشترين اضطروا إلى تكوين ودائع في الجمعية قبل السماح لهم بالاقتراض، فقد تم تقنين القروض. ونتيجة لذلك، لم تكن أسعار المنازل متقلبة بشكل ملحوظ.
وأدى دخول البنوك إلى توسيع نطاق الإقراض العقاري بشكل كبير. حدث هذا في ظل انخفاض عالمي في معدلات الفائدة، والذي انتقل إلى سوق الإسكان في المملكة المتحدة، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المنازل بشكل عام.
والأهم من ذلك، أن تحرير الاقتصاد أدى إلى تسريع هذا الطلب. وجد المشترون الجدد أن المنازل أصبحت أيسر بمعدلات فائدة منخفضة، بينما أصبح التمويل، الذي لم يعد مُقنناً، متاحاً بسهولة أكبر.
وكان الارتفاع الناتج في الأسعار، إلى جانب التوسع الائتماني الاستثنائي الذي استمر حتى الأزمة المالية العالمية بين عامي 2007 و2009، المحركين الرئيسيين لخلل سوق الإسكان البريطاني، وكذلك للمكاسب الكبيرة غير المتوقعة التي حققها من اشتروا المنازل في بداية رحلة التحرير.
وبناءً على ذلك، كان اهتمام مشتري المنازل أقل بالمأوى والخدمات الأخرى التي توفرها، وأكثر بالعائد المالي من التملك وخصائص الإسكان في التحوط من التضخم. وهكذا، أصبحت الطبقة المتوسطة البريطانية تنظر إلى الإسكان على أنه استثمار مضاربي ومصدر نقدي مما ساهم في زيادة الأسعار.
ومع تزايد دور الإسكان في دفع الدورة الاقتصادية في المملكة المتحدة، كان تأثيره على الاقتصاد الأوسع عميقاً. يعتقد معظم المحللين الاقتصاديين أن تحول أولويات البنوك من الأعمال إلى الإسكان، إلى جانب ارتفاع ديون الأسر، كان عاملًا في ضعف أداء الإنتاجية في البلاد.
في الوقت نفسه، لعب ازدهار الإسكان دوراً مهماً في تراجع الاستثمار البريطاني وزيادة الاستهلاك. وساهم هذا بدوره في إضعاف الحساب الجاري لميزان المدفوعات الخاص بالبلاد.
ويعتقد واتلينغ، من لونغفيو، أن تعديل نظام بازل لرأس المال لإعادة التوازن من الرهن العقاري إلى إقراض الشركات هو مفتاح تنشيط نمو الإنتاجية وتكوين الثروة على نطاق واسع. لكن لا يبدو أن مثل هذه الخطوة، التي من غير المرجح أن تُرضي جماعات الضغط المصرفية القوية، مدرجة على الأجندة السياسية.
اقرأ أيضاً: بريطانيا تواجه ضغوطاً مع تصاعد شكوك المستثمرين بشأن مستقبلها
الإصلاح الضريبي
تبقي تلك التطورات الإصلاح الضريبي كخيار متبقٍ لمعالجة الفجوة الهائلة بين أسعار المنازل والأجور، والتشوهات العديدة في النظام الضريبي البريطاني.
ومن بين أكثر هذه التشوهات جوهريةً التحيز لصالح المالكين على حساب المستأجرين. وينبع هذا من الإعفاء من ضريبة أرباح رأس المال على بيع المنازل الرئيسية للمالكين الساكنين، ومن ضريبة الدخل على تدفق المنافع التي يحصل عليها الملاك من العيش في منازلهم - وهو ما يصفه الاقتصاديون بـ "الإيجار المحتسب". بمعنى آخر، الإيجار الذي كان سيُفرض ويُدفع لو كان المالكون والمقيمون في تلك المنازل كيانين منفصلين.
ومن المتوقع أن يرحب بعض أعضاء حزب العمال في الصفوف الخلفية بإلغاء الإعفاء من ضريبة أرباح رأس المال على العقارات الأعلى قيمة. لكن امتلاك المنازل ظلّ منذ فترة طويلة بمنزلة أمر مقدّس سياسياً، وهو ما يجعل هذا الخيار عالي المخاطر. أمّا بالنسبة لضريبة الإيجار المحتسب، التي أُلغيت في بريطانيا عام 1963، فلم يُبدِ أي حزب سياسي اهتماماً بإعادتها رغم العائدات الواضحة المحتملة منها.
وتعيق ضريبة الدمغة، التي تُعَد أكبر مولّد لإيرادات الضرائب من العقارات، مرونة سوق العمل وتشكل عائقاً أمام كبار السن الذين يرغبون في الانتقال إلى منازل أصغر، لذا فهي تستدعي إصلاحاً عاجلاً، وكذلك الحال مع ضريبة المجلس (council tax) المحلية المبنية على تقييمات عقارية تعود لعام 1991.
وطالب المستشار الحكومي السابق تيم لونيغ بضرورة استبدال ضريبة الدمغة بضريبة عقارية سنوية نسبية تُفرض على قيمة المنازل التي تتجاوز 500 ألف جنيه إسترليني. كما يحث أيضاً على استبدال ضريبة المجلس بضريبة عقارية محلية نسبية تُفرض على قيمة المنازل حتى 500 ألف جنيه إسترليني، مع تقسيم الإيرادات بين الحكومة المركزية والمحلية استناداً إلى قيمة المنازل في كل منطقة.
ومع ذلك، يُقرّ لونيغ بأن طرح اقتراحه بشأن ضريبة الدمغة في ميزانية الخريف سيعني خسائر في الإيرادات على المدى القصير، وهو ما يتعارض مع مبدأ وزارة الخزانة الحاسم في توليد الإيرادات.
إذن يحتاج الإصلاح الضريبي إلى بعض الشروط الأساسية لجعله قادراً على معالجة هذه التشوهات مع تعزيز النمو والإنصاف والاستدامة وتوسيع القاعدة الضريبية.
في ورقة بحثية للأكاديمية الوطنية البريطانية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، يُسلّط مولباور، من جامعة أكسفورد، الضوء على أهمية الاستفادة من قيمة الأراضي ودعم الإسكان الاجتماعي. ويرى أن تحسين ضرائب العقارات ينبغي أن يهدف إلى تحسين توزيع مخزون المساكن الحالي، وأن يتفاعل مع نظام تخطيط أكثر مرونة لتشجيع المطورين على التحول من بناء المنازل الفاخرة إلى مساكن بأسعار معقولة.
ويشير هذا إلى اتجاه لاقتراض فرض ضريبة على قيمة الأراضي، حيث تُحتسب ضريبة العقارات بناءً على قيمة الأرض نفسها فقط. ومن شأن هذه الخطوة أن توفر قاعدة ضريبية واسعة لأنها تشمل العقارات الشاغرة والمواقع الشاغرة. ومن شأن ذلك أن يشجع على الاستخدام الأمثل للأراضي بطريقة لا توفرها ضرائب الدمغة والمجلس. كما أنها ستُمكّن المجتمع من الاستفادة بشكل أكبر من ارتفاع القيمة الناتج عن منح تصريح التخطيط.
ومع ذلك، يبدو أن حدوث تحول جذري بارز من هذا النوع أمر مستبعد للغاية في ميزانية ريفز المقبلة. في ضوء ذلك، دعا مولباور إلى اتباع نهج لفرض ضرائب على الأراضي يتضمن استبدال أعلى شريحتين من ضريبة المجلس، واللتين تغطيان حوالي مليون عقار في إنكلترا وويلز، بضريبة ثروة سنوية بنسبة 0.5%، بالإضافة إلى ضريبة بنسبة 1% على جميع الأراضي الزراعية وغير المأهولة التي تزيد قيمتها عن 40 ألف جنيه إسترليني للهكتار. ويمكن تعويض الانخفاض المحتمل في أسعار العقارات بخفض أعلى معدلات ضريبة الدمغة على العقارات باهظة الثمن.
وتميل أي إشارة إلى ضرائب الثروة إلى إثارة ردود فعل سياسية عدائية. ومع ذلك، يقول مولباور إن هذه الحزمة قد تُحسّن بالفعل القدرة على تحمل تكاليف السكن لأصحاب الدخل المرتفع، مع تعزيز فرص العمل وإيرادات ضريبة الدخل المستقبلية.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي