عادت حركة الاندماجات والاستحواذات العالمية إلى الانتعاش بقوة، مع تسجيل عدة صفقات ضخمة خلال الربع الثالث من العام، لتبني على الزخم الذي بدأ في وقت سابق من 2025.
فعندما عاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، توقّعت الأسواق موجة من سياسات التحرير وتقليص القيود التنظيمية، إضافة إلى بيئة ضريبية محفّزة، ما كان من شأنه إشعال طفرة في صفقات الاندماج والاستحواذ. غير أنّ المخاوف من الركود، والتوترات الجيوسياسية، والقلق من الرسوم الجمركية أبقت مجالس إدارات الشركات في حالة حذر.
لكن يبدو أن تلك المخاوف بدأت تتراجع تماماً، إذ شهدت الأسواق موجة قوية من الصفقات مدفوعة بتوقّعات خفض معدلات الفائدة ووفرة السيولة لدى شركات الاستثمار المباشر.
ووفق بيانات منصة «ديلوجيك» للأسواق المالية، ارتفعت القيمة الإجمالية لصفقات الاندماج والاستحواذ إلى 1.29 تريليون دولار في الربع الثالث من العام الجاري، مقارنة بـ1.06 تريليون دولار في الربع الثاني و1.1 تريليون دولار في الربع الأول.
وشهد النصف الأول من العام صفقات متوسطة وصغيرة الحجم، بينما عاد الربع الثالث ليشهد صفقات كبرى بمليارات الدولارات.
وقالت شركة «ميرجر ماركت» المتخصصة في معلومات صفقات الاندماج والاستحواذ في تقرير حديث: «بعد ربيع مضطرب، أدّت الطفرة في الصفقات الضخمة وازدياد شهية الشركات لإعادة التموضع الاستراتيجي إلى تعزيز نشاط الاندماجات والاستحواذات في الربع الثالث، مما يمنح صانعي الصفقات أملاً في ختام قوي لعام 2025».
بلغت القيمة الإجمالية لصفقات الاندماج والاستحواذ العالمية خلال الأشهر التسعة الأولى من العام أكثر من 3.4 تريليونات دولار، بزيادة قدرها 32% على أساس سنوي، وهو أقوى أداء منذ عام 2021، وفقاً لبيانات شركة «ميرجر ماركت».
وجاءت الطفرة مدفوعة بالصفقات الضخمة التي تجاوزت قيمتها 10 مليارات دولار، إذ تم الإعلان عن 49 صفقة من هذا النوع حتى الآن في 2025، وهو أعلى رقم يُسجَّل خلال فترة تسعة أشهر منذ بدء رصد البيانات.
اقرأ أيضاً: بصفقات بـ232 مليار دولار .. اليابان تقود سوق الاندماجات والاستحواذات الآسيوية في 2025
وشهد الربع الثالث حدثين بارزين في مشهد الاندماجات والاستحواذات العالمية؛ أولهما صفقة استحواذ شركة «يونيون باسيفيك» على «نورفولك ساذرن» بقيمة 85 مليار دولار في يوليو تموز، وثانيهما صفقة استحواذ صندوق الاستثمارات العامة السعودي بالشراكة مع شركتي «سيلفر ليك» و«أفينيتي بارتنرز» على شركة «إلكترونيك آرتس» في صفقة استحواذ خاص بلغت 55 مليار دولار، وهي أكبر عملية شراء بالاقتراض في التاريخ.
وقال ميتش برلين، نائب رئيس شركة «إي واي بارثينون» في منطقة الأميركيتين، لـ«CNBC»: «الاختلاف الرئيسي الآن هو أن القادة انتقلوا من مرحلة الانتظار والترقب إلى مرحلة التنفيذ»، مضيفاً: «لقد أدركوا أن حالة عدم اليقين الجيوسياسي والتجاري أصبحت الوضع الطبيعي الجديد، وهم يركّزون الآن على دورة النمو المقبلة لشركاتهم».
أظهرت بيانات «إي واي بارثينون» أن 48% من الرؤساء التنفيذيين الذين شملهم استطلاع أُجري في أغسطس آب يخططون لإبرام مزيد من الصفقات، في إشارة إلى التزام مستمر بتوسيع عمليات الاستحواذ.
وفي الوقت نفسه، ارتفع عدد الطروحات العامة الأولية بنحو 12% على أساس سنوي حتى مطلع سبتمبر أيلول، وفق تقرير التوقعات نصف السنوي لعمليات الاندماج والاستحواذ الصادر عن «جي بي مورغان»، مدفوعاً بقوة قطاعات التكنولوجيا المالية والصناعات، إلى جانب عودة الاهتمام بعمليات الإدراج الكبرى في قطاع التكنولوجيا.
وسجّلت مجموعة «جيفريز فايننشال غروب» ثالث أعلى مستوى من رسوم الاستشارات الفصلية في تاريخها مؤخراً، ما يشير إلى أن محركات الاستثمار المصرفي في «وول ستريت» عادت إلى النشاط القوي مجدداً.
ولم تُعلن بعد البنوك الاستثمارية الكبرى مثل «جي بي مورغان» نتائجها للربع الثالث، إلا أن دوغ بيتنو، الرئيس المشارك لوحدة الخدمات المصرفية التجارية والاستثمارية في البنك، توقّع أن تنمو إيرادات أنشطة الاستثمار بنسبة «منخفضة في خانة العشرات».
وقال جيف بلاك، رئيس وحدة الاستشارات العالمية في مجال الاندماج والاستحواذ لدى شركة «ميرسر»: «هناك بالتأكيد طلب متراكم على صفقات الاندماج والاستحواذ وكذلك على عمليات التخارج»، مضيفاً: «كما نشهد ضغوطاً متزايدة من أصحاب المصلحة على الشركات المدرجة لتحقيق النمو، وهو ما يدفع إلى مزيد من عمليات بيع الأصول وإعادة الهيكلة».
أشارت لوسيندا غوثري، رئيسة شركة «ميرجر ماركت»، إلى وجود عوامل هيكلية داعمة لنشاط الاندماجات والاستحواذات، من بينها تخفيف القيود التنظيمية، وارتفاع حجم رؤوس الأموال غير المستثمرة لدى شركات الاستثمار المباشر، إضافة إلى تراكم صفقات الخروج المؤجلة. ووفقاً لشركة الاستشارات الإدارية «باين»، يمتلك قطاع الاستثمار المباشر العالمي حالياً نحو 1.2 تريليون دولار من الأموال غير المستثمرة.
وقالت غوثري: «هناك اندفاع واضح نحو الأصول المرتبطة بالذكاء الاصطناعي —مثل البيانات والبنية التحتية والكوادر البشرية— في وقت تسعى فيه الصناعات التقليدية إلى بيع الأصول غير الأساسية لتكييف نماذجها مع البيئة الجديدة».
وأضافت أن خفض الفدرالي الأميركي لمعدلات الفائدة في سبتمبر أيلول منح الشركات الثقة بأن تكلفة التمويل بلغت ذروتها. وكان الفدرالي قد أقر الشهر الماضي خفضاً متوقعاً على نطاق واسع، وأشار إلى احتمال إجراء خفضين إضافيين قبل نهاية العام.
ويساهم انخفاض تكاليف التمويل في تسهيل اقتراض الشركات لتمويل صفقات الاستحواذ أو عمليات الشراء بالاقتراض، إذ توفّر إشارات الفدرالي حول بلوغ الفائدة ذروتها وضوحاً أكبر في تسعير الصفقات وتصميم هيكل التمويل والمضي قدماً في تنفيذ العمليات.
ومع ذلك، لا يُعدّ هذا الانتعاش تكراراً لطفرة السيولة المفرطة في عام 2021، إذ أوضحت غوثري أن نشاط الاندماجات والاستحواذات بين الشركات الصغيرة والمتوسطة لا يزال ضعيفاً، متأثراً بفجوات التقييم وصعوبة الخروج من الاستثمارات، لا سيما في ظل بيئة سياسية متقلبة في عهد إدارة ترامب.
اقرأ أيضاً: الأسواق الناشئة تستعيد عافيتها مع أكبر موجة ارتفاع للأسهم منذ 15 عاماً
وأشار فريق التحليلات في «ميرجر ماركت» إلى أن التكاليف التمويلية ما زالت مرتفعة حالياً رغم التوقعات بانخفاضها، بينما تستند توقعات البائعين إلى تقييمات عام 2021، مما يعقّد المفاوضات حول الصفقات.
ولمواجهة هذه التحديات، تلجأ الشركات وصناديق الاستثمار إلى هياكل صفقات أكثر ابتكاراً، تشمل المشاريع المشتركة المزودة بخيارات استحواذ، وصناديق «الاستمرارية» التي تتيح لصناديق الاستثمار المباشر شراء أصولها من صناديق شارفت على نهاية دورة حياتها، بما يسمح لها بالاحتفاظ بتلك الأصول لفترة أطول.
وقال جيف بلاك من شركة «ميرسر»: «صناديق الاستثمار المباشر الكبرى لا تزال نشطة وتواصل جمع التمويل، لكن الصناديق المتوسطة تواجه صعوبات في عمليات الخروج وجذب رؤوس الأموال».
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي